ويبدو أن حادثة ناقلة النفط ديستيا أميا كانت نقطة البداية لانطلاق نزاع مسلح جديد. فقد تمكنت حكومة السراج في طرابلس من إفشال مساعي برلمان طبرق برئاسة عقيلة صالح لتصدير النفط، عبر محاولة بيع الشحنة التي تحملها الناقلة وتبلغ 650 ألف برميل، عبر احتجازها في ميناء بمالطا، بقرار أممي ألزمها بإفراغ شحنتها في ميناء قريب من طرابلس. وقال المبعوث الأممي إلى ليبيا، مارتن كوبلر، الثلاثاء الماضي، إن ليبيا طلبت من مجلس الأمن الدولي وضع سفينة تحمل علم الهند وتنقل شحنة نفط خام من الحكومة المنافسة في شرق ليبيا إلى مالطا، على القائمة السوداء. وقال السفير الليبي إبراهيم الدباشي إنه كتب إلى لجنة العقوبات بمجلس الأمن للشكوى بشأن أول شحنة نفط من الحكومة المنافسة، وهي الشحنة التي غادرت ميناء الحريقة، في شرق ليبيا، خلال الليل. وأقامت الحكومة في الشرق مؤسسة وطنية للنفط موازية لتلك التي تتخذ من طرابلس مقراً لها والمعترف بها دولياً باعتبارها البائع الشرعي الوحيد للنفط الليبي.
أمام هذا الصراع المتجدد، يرى مراقبون للشأن الليبي أن القوى المسلحة تتجه بأنظارها هذه المرة للسيطرة على منطقة الهلال النفطي تحت شمّاعة "محاربة داعش" في معقله، سرت. فما إن نجحت حكومة السراج في مصادرة الناقلة، حتى أعلن قياديون من قوات حفتر عن وجودهم الفعلي في مناطق مرادة وزلة النفطيّتَين، وعزمهم للتقدم باتجاه سرت، ليعقبها بعد ساعات هجوم مسلح من قبل "غرفة عمليات الجفرة" (جنوب سرت 200 كيلومتر) التابعة للمجلس العسكري لمصراتة (الأقرب سياسياً إلى السراج) التي اشتبكت مع مسلحين قالت إنهم من حركة "العدل والمساواة" السودانية المقربة من حفتر، على تخوم زلة، المنطقة النفطية المتاخمة جنوباً للهلال النفطي. بينما اتهم عسكريون مقربون من الأخير قوات مصراتة بقطع الطريق أمام من وصفوهم بـ"الجيش" لمقاتلة "داعش" في سرت.
ويعتبر مراقبون لخريطة توزيع حقول النفط في الهلال النفطي، أن ما يحصل اليوم هو تجدّد للصراع القديم بين الطرفين إياهما، لكنه هذه المرة بدوافع أخرى ومغلفاً بشعارات جديدة. ودارت معارك في السابق للسيطرة على مواقع النفط، كانت أبرزها معركة "قوات الشروق" المكلفة من المؤتمر الوطني السابق لتحرير مواقع النفط مطلع عام 2015، من قبضة حرس المنشآت النفطية. كما صدت الأخيرة هجمات عدة لتنظيم "داعش"، سابقاً، الذي حاول الوصول إلى خزانات النفط في بعض موانئ الهلال النفطي.
وتمتد منطقة الهلال النفطي من بن جواد (250 كيلومتراً شرق سرت)، وحتى ميناء الزويتينة (غرب بنغازي 180 كيلومتراً)، مروراً بعدد من المجمعات النفطية التي تتوفر على خزانات ضخمة للنفط وموانئ للتصدير، أهمها: مجمّعا البريقة ورأس الأنوف. ويسيطر على هذا الشريط الساحلي النفطي حرس المنشآت النفطية المؤلف في معظمه، بمن فيهم رئيسه إبراهيم الجضران، من قبيلة المغاربة، حيث تقع هذه المواقع ضمن أراضيها. وهي القبيلة التي شكلت نقطة ضعف لحفتر في السيطرة على شرق البلاد. وفي المناطق المتاخمة جنوباً لهذا الشريط النفطي الساحلي، تتواجد حقول نفطية عدة مبعثرة، أهمها: مرادة، وزلة، والصباح، والانتصار. ويقع معظمها تحت سيطرة قبائل الزوية الموالية لحفتر، وهي من ضمن أراضيها، والتي تقتسم مع قبيلة المغاربة مدينة أجدابيا (شرق بنغازي)، ضمن صراع طويل.
وتغيّرت خارطة التحالفات القبلية وانتماءاتها السياسية، أخيراً، في ظلّ مستجدات الحرب على تنظيم "داعش" غذّاها الصراع القديم بين قبيلتَي الزوية والمغاربة، إذ انضمت الأولى، مبكراً، لقوات حفتر من خلال كتائب لتشكل أغلب قواته التي تقاتل في الجنوب، لا سيما الكفرة. ولاء دفع بخصمها (قبيلة المغاربة) للوقوف بشكل محايد، في أغلب الفترات السابقة، إزاء قوات حفتر، لكنها تمكنت، أخيراً، من الدفع بحلفائها للمشاركة في جلسات الحوار السياسي لتتمكن من الفوز بمقعد في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ممثلة بالدكتور فتحي المجبري الذي عُيّن بمنصب نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، وصولاً إلى إعلان العداء المباشر مع حفتر من خلال تعيين حليفها المهدي البرغثي بمنصب وزير الدفاع في حكومة الوفاق، وهي العقدة التي تشرح بشكل رئيسي المعارضة الشرسة جداً من حفتر للمجلس الرئاسي وحكومته.
وتسيطر حالياً قوة "حرس المنشآت النفطية" مدعومة بخلفيتها القبلية والسياسية الجديدة ممثلة في المجبري والبرغثي على كامل الشريط الساحلي النفطي. بينما وصلت قوات حفتر المسلحة قبل أيام إلى مناطق مرادة وزلة عبر حليفها القبلي "الزوية"، في ما بدا أنّ أهمية الشمال باتت كبيرة جداً.
ويتجلى تغيّر خارطة التحالفات الجديدة بشكل واضح في التقارب بين "حرس المنشآت النفطية" والمجلس العسكري لمدينة مصراتة المقرّب من حكومة الوفاق بطرابلس، وهما القوتان ذاتهما اللتان خاضتا معارك طيلة شهرين مطلع 2015، قبل أن تنسحب قوات "عملية الشروق" التابعة للمجلس العسكري لمصراتة من المنطقة. وإذا أضيف تحرك مقاتلي قاعدة الجفرة الموالية للمجلس العسكري بمصراتة نحو زلة، يوم الثلاثاء، مدعومة بالطيران، والتي كانت على ما يبدو محاولة للسيطرة عليها، إلى تحرك مسلح آخر لمقاتلي قبيلة أولاد سليمان المتحالفة مع مصراتة، في اليوم ذاته، لتسيطر على حقل ألغاني القريب من زلة، يصبح جائزاً التكهّن بأنّ حرباً جديدة ستتشكل ملامحها في القريب العاجل، وفقاً لمراقبين.
وتتبدى في هذه المرحلة الجديدة من الصراع أسئلة عدة حول حقيقة أهداف مشروع "الكرامة" الذي أطلقه اللواء حفتر قبل ثلاث سنوات، وحقيقة وقوف التيار الفيدرالي شرق ليبيا وراءه بقوة، وعلاقته بأعوان النظام السابق، وجاهر أخيراً باحتضانهم، مثل أمين شؤون الاتحادات والنقابات والروابط المهنية بمؤتمر الشعب العام في ليبيا، أحد أعضاء ما تسمى اللجان الثورية، وكان من المقربين للعقيد معمر القذافي، الطيب الصافي، في طبرق والمقرب أيضاً من المسؤول السياسي لجبهة النضال الوطني الليبي، أحمد قذاف الدم، الذي تشير إليه أصابع الاتهام بتسليمه مدينته سرت لـ"داعش".
وفي خضم هذه التغيّرات، يتساءل كثيرون عن أسباب صمت المجتمع الدولي حيال هذه التحركات المسلحة العسكرية في محيط الهلال النفطي، والذي لم يعد خافياً أنه يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لدول العالم، لا سيما فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي تمتلك شركات نفطية عاملة في ليبيا، وتعد من أكثر الدول استهلاكاً للنفط الليبي.