08 يوليو 2019
ليس فقط أبيض بل مغنياً أيضاً
صارت جائزة نوبل للآداب خارج التوقعات. تشاطرها التغريد النشاز نوبل للسلام. الثانية سياسية مئة بالمئة، لا جدال في ذلك. وتسوويّة مئة بالمئة، لا جدال في ذلك. ولاعبةٌ على سيرك أحداث العالم وكوارثه، لا جدال في ذلك أيضاً. لاحظوا معي أن هذا لا يحدث في الجوائز التي تمنح إلى حقولٍ أكثر دقةً: العلوم، الاقتصاد. لا أعرف إن كان يجري احتجاجٌ وجدل، بين الجمهور وفي أوساط المعنيين، على منح جوائز العلوم، كما يحدث في الآداب والسياسة. لا يقال، على الأغلب: أوه.. ليس هذا، كما صرخ أكثر من معلّق غربي على اسم بوب ديلان، عندما نطقته رئيسة الأكاديمية السويدية. لا يُقال هذا للجوائز العلمية، ولا الاقتصادية حسب ظني. لكنَّ هذا يحدث مع "الجوائز الإنسانية". أكتب عن جائزة نوبل للآداب، تقريباً، كلَّ عام. وقليلاً ما أجد نفسي مندفعاً لامتداح المتوَّج بهذا الصيت العالمي. دائماً هناك إنَّ. وهذا طبيعي في حقول الآداب والفنون، حيث لا معيار "علمياً"، ولا "رياضياً"، يحكم المسوّغات. فهذه حقول مزاج. وتيارات. وأساليب، وثيمات مفضلَّة لأناس دون آخرين.
بيد أن الاحتجاج، والمسخرة، لم يبلغا يوماً، على منح جائزة الآداب لاسم معيّنٍ، مثلما بلغا هذا العام، عندما ذهبت "أرفع" جائزة آدابٍ عالمية إلى مغنٍّ، هو أكثر شهرةً من نوبل نفسه وأعضاء أكاديميته المغمورين بكل معنى الكلمة. والأمر لا يتعلق بالشهرة، ولا بالحاجة، بل بالجدارة. الأغرب من هذا الاختيار "المثير" أن الذي ذهبت إليه الجائزة لم ينطق، حتى الآن، بكلمةٍ حيال منحها له. لم يقطع حفلاته الموسيقية في مكان ما في أميركا (لعله لاس فيغاس)، بل ربما تساءل عن اسم الجائزة:
نوبل.. ماذا يعني ذلك؟ أهي جائزة للموسيقى؟
كلا.
إذن، ما علاقتي بالأمر.
لم يقل ديلان ذلك. ولكنّ صمته يشبّه الصفعة للاثني عشر مغموراً الذين غربلوا في خلوتهم، مثل الكرادلة، أسماءً مطروحةً أمامهم على الطاولة، ووقعوا على الاسم الأكثر غرابةً بينها ليوجّهوا، عبره، صفعة للكتب ومن يكتبها.
فهذا العام لن تكون هناك كتب. رُقُم الآلهة القديمة وألواحها، بل غيتاراتٌ وأسطواناتٌ. لا ناشرين، بل صنَّاع أسطوانات. لا ترجمة. فلا تمكن ترجمة الموسيقى. لا تجمهر صحافيين وفضوليين أمام باب المتوَّج بالجائزة، لأنَّ ديلان في جولةٍ موسيقية، وهو متوّج بعشرات الجوائز الأكثر شهرةً، في حقله، من جائزة مخترعٍ لديناميت. من حق لجنة نوبل أن تعطي جائزتها لمن تريد. ولكن، لا ينبغي أن تتسلَّل من غرفة الأدب إلى غرفة الموسيقى (وربما الطعام لاحقاً). ما هو جدير بالملاحظة (المتكرّرة، وغير المفاجئة على غرار الخيارات)، أن الجائزة الاسكندنافية لم تختلف بوصلتها، حتى وإن نطَّت عن الحيط، وأعطتها لموسيقيٍّ. فهي لا تزال تدور في إطار "المركزية الأوروبية"، أو لنقل الغربية، وهي ذات أصلٍ أوروبي على كلّ حال. ففي العقد المنصرم، لم تلتفت لجنة نوبل للثقافات غير الأوروبية التي تشكل ثلثي العالم سوى مرتين: مرة لصيني "منشقّ" يقيم في فرنسا، هو غاو كيسنجيان، ومرة أخرى للتركي أورهان باموق، أما كويتزي، الجنوب أفريقي، فهو أوروبي الأصل، ويكتب بالإنكليزية.
لو لم تطرح "نوبل" نفسها جائزةً "عالمية" لما كان هناك معنى لكلامي هذا، فجائزة أوروبيةٌ من الطبيعي أن ينالها أوروبيون، أما جائزةٌ تعتبر نفسها، اليوم، جائزةً للأدب العالمي، فليس من الطبيعي أن تبقى أوروبيةً، غربية، "بيضاء". العالم أكبر خارج اسكندنافيا. مترامي الأطراف والشعوب والثقافات. في بلدين متجاورين، هما الصين والهند، يوجد ثلث عدد سكان العالم. ليس معقولاً أن لا يكون في الهند التي غيَّر المتحدّرون منها، والكاتبون بلغة المستعمر، الرواية الإنكليزية، كاتب واحد جدير بجائزة نوبل، بعد نحو قرن من منحها لطاغور!
وحتى عندما ينال آسيوي" أو أفريقي تلك الجائزة، فإنه لا يخلو من "الأوربة"، مثلما هو حال كيسنجيان وباموق. المركزية الأوروبية هي الشرفة التي تطلّ منها الجائزة على العالم، على الرغم من أن معظم التجديد الذي يطاول الرواية والشعر الأوروبيين قادمٌ من "الهامش" الثقافي غير الأوروبي. "أوروبا العجوز" (بمعنى آخر غير الذي قصده سيئ الذكر رامسفيلد) لا تزال تعتبر نفسها سيدة العالم.