مِن الواضح أنّ التراث الشعري العربي هو جوهر اللغة العربية والهوية العربية الثقافية برمّتها. فكرة كهذه تحتاجُ إلى كثيرٍ من الكلام لتوضيحها ولتبيان مضامينها. يكفي القول إنّه من الصعب جدّاً تخيُّل العالم العربي، ولا أقصد كدُوَل وكتل سياسية مهترئة الآن، بل ككيان ثقافي قديم، بدون الشّعر؛ فالشّعر هو المؤسّس الأول للهوية العربية الجمعيّة، وإنْ تطوَّر هذا الشّعر وأخذ أسماء وأشكالاً ومفاهيمَ متعددةً.
تنبع هذه الأفكار من حقيقة أنَّ الثقافة العربية، ولا أريد أن أخوضَ هنا في ما يفرّق العرب ثقافياً، وهذا وارد، لتصبحَ ثقافات عربية، ولكن الثقافة بمعناها العربي الجمعي العام، هي ثقافةُ كلمة بالأساس. يعني هذا أنّ كلمةً علا شأنها على أُخرى في أزمان مختلفة، فدخلَ العرب في إطارٍ مجتمعي وفكري جديدٍ، وهكذا. المفارقة أنّ المقولة التوراتية "في البدء كان الكلمة…" لا تنطبق على أمّة من الأمم كما تنطبق على العرب.
وهنا ملاحظة صغيرة للقول إنَّ الغرب تطوَّر من ناحية ماديّة وعلميّة وفكريّة فلحقته لغاته وتطوّرت معه، أمّا العالم العربي فلم يتطوّر في العصر الحديث على هذه الصُّعُد المذكورة، وظلّت لغته تراوح مكانها، وإن كانت قد تطوّرت على نطاقٍ ثقافي محدودٍ بين المتعلّمين والنخب المثقفة، التي هي في الغالب مهمَّشة أو محل شك، إن لم تكن مضطهَدة في بلدانها.
الشّعر ليس فقط مؤسِّساً للحضارة في العالم العربي، بل في العالم بأسره. بدأت اللغات كأصوات وإيماءات ثم تطوّرت إلى أدوات تَخاطُب، لفهم الإنسان لطبيعته والبيئة الخارجية من خلال الكلام المجازي ومناجاة الطبيعة بأساليب شعرية مختلفة، فقد لجأ القدماء إلى الشّعر في الأفراح والأتراح، وخصوصاً عند المهالك والمصائب.
مِن هنا نجد الكتابات السومرية القديمة التي ينتحبُ فيها الناس بطرق شعرية أمام ما حلَّ بهم من كوارث طبيعية، وكذلك أشعار الأهرامات في مصر القديمة التي تستعيد أمجاد الآلهة المصرية وتحفظُ خلودهم في الحياة الدنيا بالكلام، وستأتي بعد ذلك الديانات المختلفة لتسحرَ المؤمنين بشعرٍ وترانيم وخطابات شعرية خارقة، وغالباً لها سياقات محدَّدة على علاقة بالبيئات التي عاش فيها المؤمنون الأوائل. وهكذا لم تقم حضارة لم يكن للشعرِ فيها نصيب، ونصيب كبير.
في الحالة العربية، اضطلع الشّعرُ بدورٍ تأسيسي بامتياز، فما يُسمّى بالعصر الجاهلي هو نهضة شعريّة غير مسبوقة في المنطقة التي أصبحت تُعرف بـ"الشرق الأوسط"، وخصوصاً في العالم العربي. الشّعرُ الذي بدأ كأصوات تُقلّد الطبيعة وتعيدُ تمثيلها سيتحوّل إلى الساحة التعبيرية الأكبر للاستدلال والمعاني الجمالية والعمرانية الفسيحة.
أعود إلى فكرة أنَّ الشّعر هو المؤسّس للحضارات، والحضارة العربية خيرُ شاهدٍ على ذلك. وكان من أوائل من تحدّث عن تأسيس كهذا ابن خلدون حين تطرّق إلى الشّعر كملكة في فطرة الشاعر الإنسان. تبعه في ذلك المفكّر الايطالي جيامباتيستا فيكو في القرن السابع عشر في مقدّمته العظيمة "العلوم الجديدة" التي أسّست للعلوم الإنسانية، وخصوصاً اللغوية والفكرية والتأريخية في الغرب. وقد كان فيكو رائداً في التعبير عن التطوُّر الذي حلّ باللغات من الناحية التعبيرية، فمن طغيان أصوات المناجاة الأولى عند القدماء أمام ما رأوه من أهوال الطبيعة، إلى الاستعارة والتعبيرات الروحية المتعلّقة بظهور الديانات، ثمَّ اللغة العقلانية التي طغت على العصر الحديث مع كتابات ديكارت عن العقل وانفصاله عن الجسد، إلخ. لكن لم تغب خلال كلّ ذلك النقاش أهمية الشّعر كجوهر مؤسّس للحضارات في التاريخ.
وبعد ذلك حضرت فكرة الشعر كمؤسّس للحضارات بقوّة في كتابات مارتن هايدغر، وخصوصاً في مقالته بالغة الأهمية، "هولديرلين وجوهر الشعر". يبيّن هايدغر من خلال الشاعر الرهيف هولديرلين كيف أنّ الشّعر يُنْطِقُ الأشياء ذات الجوهر الساكن، يحرّكها فإذا هي تمور. يصبح الشاعر من خلال الشّعر خالق عوالم لغوية، وجذور حضارية لم تكن لتكون لولا الطاقة الخفيّة متعدّدة الماهيات في خيال الشعراء. يقول هايدغر: "الشّعر منبع ومؤسّس اللغة والفن والتاريخ والوجود والوقت والحقيقة، إنّه لنبع أولي، يؤسّس ويؤطّر ويُسمّي، يبعث على الوجود، يصنع فكراً. لا شيء خارج الشّعر. إذا ما نظرنا بدقّةٍ للأمور سنجدُ أنّه لا يوجد شيء خارج الشّعر، ولا يفلتُ حتى العدم من قبضة الشّعر".
فكرة الشّعر كمؤسّس للحضارة تنبع من كونه أعلى مراتب الكلام وأسماها. هذا وإن غرّر بكثير من الناس، وحتى بعض المثقّفين منهم، أنَّ لا فائدة من الشّعر في العصر الحديث، وطبعاً هناك ابتذالات شعرية كثيرة، وإنْ أكسبتْ البعضَ شهرةً، فإنها نفّرت شرائح واسعة من القرّاء من الشّعر. هذا كلّه يجب ألّا يُبعدنا عن اعتبار الشّعر حقلاً تعبيرياً أقرب إلى روح الإنسان في كلّ الأوقات والأزمان من أي أدوات أخرى. ولا مبالغة أبداً في القول إنّ كل اللغات والبشرية قاطبةً ستكونُ فقيرة، وقليلة الفهم والأفق والخيال بدون الشّعر.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن