11 نوفمبر 2024
مجرد حظ سيئ
تجاوز عدد زوار موقع البروفيسور الأميركي الراحل، راندي باوش، الثمانية عشر مليوناً. اكتسب الرجل شهرة وشعبية واسعة، إثر تقديم محاضرته الشهيرة، وهو الأستاذ في مجال المعلوماتية، والخبير في علم تفاعل الحاسوب والإنسان، ومستشار "غوغل" سنوات، وأصدر خمسة كتب، ونحو سبعين مقالاً علمياً.
قدّم محاضرته الأكثر إلهاماً، وقد باتت وثيقة إنسانية مثيرة في كيفية الحياة، وذلك في تطبيقٍ لعرف أكاديمي قديمٍ متبعٍ في أوساطٍ جامعية، يقوم المدرّس، بمقتضاه، بإقامة فرضية العلم بدنو الأجل، وتوفر فرصة أخيرة، لإلقاء محاضرةٍ نهائيةٍ أمام الطلاب، حيث يجد المحاضر نفسه، في ظل فرضية قاسية كهذه، أمام أسئلةٍ شائكةٍ ذات طبيعةٍ أخلاقيةٍ ووجوديةٍ، حول ما يمكن قوله في أقلّ من ثلث ساعة، كتعبير ختامي عن خلاصة حياةٍ بأكملها، غير أن الفرضية لم تكن افتراضية تماماً في حالة باوش، لأنه كان يعرف جيداً أنه على وشك الموت، إثر إصابته بواحد من أخطر أنواع السرطان، وأسرعها انتشاراً وأكثرها دهاءً، إذ لا تكاد أعراض سرطان البنكرياس تتكشف في الجسد الغافل عن أي أوجاعٍ تُذكر، حتى تفضي إلى موتٍ سريعٍ ومحتوم.
بعد أن تيقّن باوش من أن ما تبقى لديه من العمر أشهر معدودات فقط، قدّم محاضرته الدراماتيكية خفيفة الظل التي انتزعت قهقهات الجمهور الحزين، المتعاطف من طلابه الأربعمائة في جامعة ميلن. استهلها قائلاً: أسف لإثارة خيبتكم، إذ لا أبدو مكتئباً بما يكفي، ولست في حالة إنكار كذلك، غير أن لا شيء يمكن تغييره.
وعلى الرغم من تداول المحاضرة على أوسع نطاق ممكنٍ، عبر وسائل الإعلام المختلفة، صرح، في مقابلة صحافية، أنه لم يتوقع هذا التأثير الكبير، وأنه كان يقصد مخاطبة أولاده الثلاثة الذين لم يكن قد بلغ أكبرهم العاشرة آنذاك. أرادهم أن يتعرّفوا إلى أبيهم عن كثب، بعد أن عزّت أمامه أسباب الحياة، من خلال الحديث عن كيفية تحقيق أحلام طفولتك. ومن أتيح له الاطلاع على المحاضرة، متلفزة أو مكتوبة، سوف يعتريه الذهول من كم التماسك الذي أبداه هذا الأربعيني، ذو الهيئة الرياضية الفتية الشابة، غير أن التأثير سوف يكون أقوى بكثير عند التأمل بملامحه ولغة جسده على المنصة، من خلال تجسيد حالة تضارب الأحاسيس، كما وصفها، ببعض الحركات الرياضية، للتأكيد على قوته البدنية والنفسية، وهو يلقي محاضرته المدهشة، من حيث عمق الأفكار وبساطتها وقوة تأثيرها.
كانت بمثابة وصية لحياةٍ أفضل لمن يحب، واحتفاليةٍ صاخبةٍ بحياةٍ عاشها كما ينبغي من دون ندم. تحدث ببساطةٍ وواقعيةٍ غير مستسلمة، ولكن مسلّمة بقدرية الأشياء، تناول حيثيات المرض الذي استفحل، واعتبره مجرد حظ سيئ، وطرح رؤيته للحياة التي شبّهها بلعبة ورق، حال توزيع الأوراق يصبح اللاعب في أثنائها عاجزاً عن تغيير واقع الحال، بيد أنه يظل مسيطراً على إدارة أوراقه، بما يجعل الخسائر في حدّها الأدنى.
كما طرح ألوان الحياة مثلما يحب أن يراها، إذ يحتل البياض عشرة بالمائة، ويحتل السواد عشرة بالمائة، فيما يشكّل الرمادي ثمانين بالمائة. وهو يرى أن الطريقة المثلى للتعاطي مع الحياة تكمن في إقناع ذواتنا أن الرمادي هو أغلبية بيضاء ليس إلا. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يصر باوش على الضوء بصفته خياراً مصيرياً، ويركّز على أهمية اكتشاف طاقات الذات الإيجابية التي لم يتم الالتفات إلى أهميتها بعد.
لم يبدّد الأكاديمي الأميركي الوقت في رثاء الذات، واستجلاب الشفقة والعطف، ولم ينشغل إلا قليلاً في الإعداد لترتيبات جنازته، لأن ذلك، بحسبه، ليس طريقة عملية لقضاء ما تبقى، لمعرفته بأن قلة الوقت قد تشكل حافزاً كبيراً للإنجاز. لذلك، اختار أن يقضي ما تبقى له من وقت مع صغاره، وفي محاولة مساعدة الآخرين.
مضى باوش في عام 2008، بعد أن علّم البشرية، بكلماته البسيطة الحميمة، درساً بليغاً في عشق الحياة، وفي كيفية استثمار الألم، لكي يصبح دافعاً للعطاء. كما راح يتكئ على المأساة، للتبشير بقيم الخير والجمال، والمراهنة على الحب طاقةً أبديةً لا تنضب، حتى بعد نفاد الرمق الأخير.
قدّم محاضرته الأكثر إلهاماً، وقد باتت وثيقة إنسانية مثيرة في كيفية الحياة، وذلك في تطبيقٍ لعرف أكاديمي قديمٍ متبعٍ في أوساطٍ جامعية، يقوم المدرّس، بمقتضاه، بإقامة فرضية العلم بدنو الأجل، وتوفر فرصة أخيرة، لإلقاء محاضرةٍ نهائيةٍ أمام الطلاب، حيث يجد المحاضر نفسه، في ظل فرضية قاسية كهذه، أمام أسئلةٍ شائكةٍ ذات طبيعةٍ أخلاقيةٍ ووجوديةٍ، حول ما يمكن قوله في أقلّ من ثلث ساعة، كتعبير ختامي عن خلاصة حياةٍ بأكملها، غير أن الفرضية لم تكن افتراضية تماماً في حالة باوش، لأنه كان يعرف جيداً أنه على وشك الموت، إثر إصابته بواحد من أخطر أنواع السرطان، وأسرعها انتشاراً وأكثرها دهاءً، إذ لا تكاد أعراض سرطان البنكرياس تتكشف في الجسد الغافل عن أي أوجاعٍ تُذكر، حتى تفضي إلى موتٍ سريعٍ ومحتوم.
بعد أن تيقّن باوش من أن ما تبقى لديه من العمر أشهر معدودات فقط، قدّم محاضرته الدراماتيكية خفيفة الظل التي انتزعت قهقهات الجمهور الحزين، المتعاطف من طلابه الأربعمائة في جامعة ميلن. استهلها قائلاً: أسف لإثارة خيبتكم، إذ لا أبدو مكتئباً بما يكفي، ولست في حالة إنكار كذلك، غير أن لا شيء يمكن تغييره.
وعلى الرغم من تداول المحاضرة على أوسع نطاق ممكنٍ، عبر وسائل الإعلام المختلفة، صرح، في مقابلة صحافية، أنه لم يتوقع هذا التأثير الكبير، وأنه كان يقصد مخاطبة أولاده الثلاثة الذين لم يكن قد بلغ أكبرهم العاشرة آنذاك. أرادهم أن يتعرّفوا إلى أبيهم عن كثب، بعد أن عزّت أمامه أسباب الحياة، من خلال الحديث عن كيفية تحقيق أحلام طفولتك. ومن أتيح له الاطلاع على المحاضرة، متلفزة أو مكتوبة، سوف يعتريه الذهول من كم التماسك الذي أبداه هذا الأربعيني، ذو الهيئة الرياضية الفتية الشابة، غير أن التأثير سوف يكون أقوى بكثير عند التأمل بملامحه ولغة جسده على المنصة، من خلال تجسيد حالة تضارب الأحاسيس، كما وصفها، ببعض الحركات الرياضية، للتأكيد على قوته البدنية والنفسية، وهو يلقي محاضرته المدهشة، من حيث عمق الأفكار وبساطتها وقوة تأثيرها.
كانت بمثابة وصية لحياةٍ أفضل لمن يحب، واحتفاليةٍ صاخبةٍ بحياةٍ عاشها كما ينبغي من دون ندم. تحدث ببساطةٍ وواقعيةٍ غير مستسلمة، ولكن مسلّمة بقدرية الأشياء، تناول حيثيات المرض الذي استفحل، واعتبره مجرد حظ سيئ، وطرح رؤيته للحياة التي شبّهها بلعبة ورق، حال توزيع الأوراق يصبح اللاعب في أثنائها عاجزاً عن تغيير واقع الحال، بيد أنه يظل مسيطراً على إدارة أوراقه، بما يجعل الخسائر في حدّها الأدنى.
كما طرح ألوان الحياة مثلما يحب أن يراها، إذ يحتل البياض عشرة بالمائة، ويحتل السواد عشرة بالمائة، فيما يشكّل الرمادي ثمانين بالمائة. وهو يرى أن الطريقة المثلى للتعاطي مع الحياة تكمن في إقناع ذواتنا أن الرمادي هو أغلبية بيضاء ليس إلا. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يصر باوش على الضوء بصفته خياراً مصيرياً، ويركّز على أهمية اكتشاف طاقات الذات الإيجابية التي لم يتم الالتفات إلى أهميتها بعد.
لم يبدّد الأكاديمي الأميركي الوقت في رثاء الذات، واستجلاب الشفقة والعطف، ولم ينشغل إلا قليلاً في الإعداد لترتيبات جنازته، لأن ذلك، بحسبه، ليس طريقة عملية لقضاء ما تبقى، لمعرفته بأن قلة الوقت قد تشكل حافزاً كبيراً للإنجاز. لذلك، اختار أن يقضي ما تبقى له من وقت مع صغاره، وفي محاولة مساعدة الآخرين.
مضى باوش في عام 2008، بعد أن علّم البشرية، بكلماته البسيطة الحميمة، درساً بليغاً في عشق الحياة، وفي كيفية استثمار الألم، لكي يصبح دافعاً للعطاء. كما راح يتكئ على المأساة، للتبشير بقيم الخير والجمال، والمراهنة على الحب طاقةً أبديةً لا تنضب، حتى بعد نفاد الرمق الأخير.