مجلس قيادة الثورة السوريّة.. ما الجديد؟
أعلن، أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، عن تشكيل مجلس قيادة الثورة السوريّة، جسماً تنظيمياً يجمع أكبر عدد من الفصائل المسلحة في سورية. ويقف هذا المقال على واقع العمل الثوري المسلح، وتطوراته والمحاولات الاندماجية السابقة، لتوضيح إذا ما كان المجلس المشكل حديثاً يمثل تجربة جديدة، أو نقلة نوعية في مسار الثورة السورية.
ما فتئ السوريون، ومنذ تحولت ثورتهم إلى مسلحة، يطالبون المجموعات المختلفة بالوحدة، وتجاوز منطق الدفاع الذاتي الأهلي إلى العمل العسكري المخطط والمنظم. بعد حادثة جسر الشغور، مطلع يونيو/حزيران 2011، واندفاع شريحة كبيرة من المحتجين إلى رفع السلاح، أعلن المقدم المنشق، حسين هرموش، عن لواء الضباط الأحرار، ليكون واجهة العمل العسكريّ والمؤسسة الجامعة للضباط والمجندين العسكريين المنشقين عن الجيش النظامي. لكن صراع الضباط على تقديم أسبقية الانشقاق، أو الرتب العالية، شرطاً لتولي القيادة، ولّدَ أجساماً عسكريّة أخرى، كالجيش السوري الحر (29 يوليو/تموز 2011) بقيادة العقيد رياض الأسعد، ولاحقاً المجلس العسكري الأعلى للجيش الحر (5 فبراير/شباط 2012) بقيادة العميد مصطفى الشيخ، ليكون هيئة تشرف على عمل المجالس العسكرية المكونة في المحافظات. لم تنجح أي من التجارب السابقة، وساهمت الخلافات بين القادة العسكريّين في ترهل عمل المجلس والعمل العسكري، على المستوى الوطني بشكل عام. كما برزت فصائل إسلامية فاعلة، كأحرار الشام، وصقور الشام، لواء الإسلام وألوية الحبيب المصطفى... إلخ، ولعبت دوراً مهماً في قتال قوات النظام، يفوق في ضراوته وتنظيمه عمل الكتائب المنضوية، أو المرتبطة، بالمجلس العسكري.
جرت أواخر عام 2012 محاولات اندماجية جادة، فأعلن في 12 سبتمبر/أيلول 2012 عن تأسيس جبهة تحرير سورية الإسلامية، وضمت، آنذاك، نحو 20 فصيلاً عسكرياً، أبرزها صقور الشام، ولواء التوحيد ولواء الإسلام. في المقابل، أعلن في 22 ديسمبر/كانون أول 2012 عن تشكيل الجبهة الإسلامية السوريّة، وضمت أكثر من 10 فصائل عسكرية، أبرزها: أحرار الشام، ولواء الحق في حمص، وجماعة الطليعة الإسلاميّة، وحركة الفجر الإسلاميّة (اندمجت لاحقاً في حركة أحرار الشام). وعلى الرغم من التقارب الفكري والتشابه التنظيمي بين الجبهتين، فإن مما ميزهما انضمام فصائل الأولى إلى هيئة الأركان المشتركة، في حين رفضت الثانيّة ذلك، وفضلت العمل المستقل على التواصل مع مؤسسات المعارضة السوريّة. غداة الإعلان عن تشكيلها، في ديسمبر/كانون الأول 2012، أمل من هيئة الأركان المشتركة أن تكون مشروعاً عسكرياً جامعاً ينسق بين الفصائل، وينتج قيادة عسكرية على المستوى الوطني، ويوحد قنوات الدعم المادي والعسكري، لكن طريقة عمل قيادة الهيئة لم تختلف عن تجارب سابقة، لجهة الارتجالية وغياب التخطيط والنظرة المستقبلية، واقتصر نشاطها على توفير السلاح، بحده الأدنى للفصائل المرتبطة معها، فتحولت لجهة
مانحة وقناة دعم ليس إلا. ونتيجة لذلك، وللتغيرات الإقليمية في الملف السوريّ، منتصف العام 2013، نأت فصائل كثيرة فاعلة عن هيئة الأركان، واختارت الانضواء في مشروع سياسي وعسكري، ضم فصائل الجبهتين السابقتين، أعلن عنه (22 نوفمبر/تشرين الثاني 2013) تحت مسمى جديد "الجبهة الإسلاميّة".
حاول الجسم الجديد أن يمايز نفسه عن التجارب السابقة، فوضع سقفاً زمنياً (ثلاثة أشهر منذ إعلان التأسيس) للاندماج الكامل بين فصائله الرئيسة (حركة أحرار الشام، وألوية صقور الشام، وجيش الإسلام، ولواء التوحيد، ولواء الحق، وكتائب أنصار الشام، والجبهة الإسلاميّة الكردية)، كما طرح، ولأول مرة مشروعاً سياسياً، سماه "مشروع أمة"، حدد أهدافه وغاياته. وعلى الرغم من الجهود المبذولة، وزيادة مستوى التنسيق، فإن مشروع الجبهة الإسلاميّة لم يكن أوفر حظاً من المشاريع السابقة، فقد مضى على إعلانه عام، من دون أن يحقق أهدافه التي طرحها عسكرياً، أو سياسيًا، لأسباب عدة، في مقدمتها مقاومة الفصائل مسعى الوحدة، وخلافات قادتها حول أولويات العمل العسكري والسياسيّ، أيضًا، والتباينات والاختلافات الفكرية. وتدريجياً، تحولت الجبهة الإسلاميّة إلى مشروع خاص بحركة أحرار الشام، لا سيما بعد اندماج لواء الحق والجبهة الإسلامية الكردية ضمنها.
مبادرة واعتصموا: صرخة لاستعادة البعد الوطني
منتصف عام 2014، بدا المشهد العسكريّ السوريّ مقسما بين ثلاثة مشاريع. أولها؛ مشروع جهادي أممي، يعبر عنه تنظيمان من منبت واحد، يتصارعان في المشروع، هما داعش الذي أعاد تنظيم صفوفه، بعد هزيمته، مطلع العام الجاري، واستغل الزخم المعنوي في العراق لتوسيع نفوذه في سورية. والنصرة التي قادت قيادتها الجديدة تحولاً غير سلوكها ونهجها وأولوياتها. وثانيها: مشروع إسلامي تمثله الجبهة الإسلاميّة، وترتبط به فصائل أخرى فاعلة، مثل الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وألوية الحبيب المصطفى، يتفق في العنوان حول إقامة دولة إسلامية، ويختلف على الطريقة والتوقيت والمنهج... إلخ. وثالثها: مشروع محلي: تمثله فصائل الجيش الحر المتناثرة في الجغرافيا السوريّة (جبهة ثوار سورية، حركة حزم، فيلق الشام، شهداء اليرموك، المجالس العسكرية). وعلى الرغم من البعد الوطني (الثوري) لهذا المشروع، إلا أنه افتقد المرجعية التنظيمية، بعد حادثة الهجوم على مستودعات الأركان، فبقيت فصائله مرتبطة بغرف العمليات العسكرية في تركيا والأردن.
كان ينظر للانقسام والتشرذم، خلال عامي 2011 و2012، على أنه يؤخر انتصار الثورة، لكنه، وبعد تغيير موازين القوى لصالح النظام، منتصف عام 2013، جرى التعامل معه كأحد الأسباب الرئيسية للهزائم المتتالية التي منيت بها المعارضة المسلحة، والذي قد يؤدي إلى هزيمة الثورة وفكرتها ككل. تأسيساً على ما سبق، ظهرت نداءات على مستوى مناطقي، تطالب الفصائل بالاندماج والوحدة، لمواجهة الأخطار المحدقة بالثورة، ولا سيما في مدينة حلب، فجرى تأسيس غرف مشتركة، وحصلت اندماجات عدة، لكنها لم تستطع إيقاف تمدد النظام والميليشيات المرتبطة به، فجاءت مبادرة "واعتصموا" 3 أغسطس/آب 2014، صرخة أطلقها مشايخ دين وطلاب العلم الشرعي، وفي مقدمتهم الشيخ حسين الدغيم، لجمع الفصائل السوريّة، على اختلاف مشاربها، على أهداف مشتركة، وضمها في مجلس واحد، وانتخاب قيادة سياسية تمثلها.
مثلت المبادرة، ظاهرياً، أكبر اجتماع للفصائل السوريّة، فقد جمعت، لأول مرة، فصائل في الجبهة الإسلامية وفصائل إسلامية أخرى، كالاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وغالبية فصائل الجيش الحر (جيش المجاهدين، جبهة حق، كتائب شهداء سورية، نور الدين الزنكي، حركة حزم، فيلق الشام، الفرقة 13، ألوية الأنصار، الفرقة 101). واستطاعت لجنة المتابعة، وعلى الرغم من العقبات الكثيرة، أن تضع المبادرة الشفوية موضع التطيبق العمليّ، بجمع الفصائل الموقعة، وفصائل أخرى جديدة، في اجتماع عقد في مدينة غازي عنتاب التركيّة 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، وانبثق منه مجلس قيادة الثورة السوريّة، وانتخب قيس الشيخ رئيسا له.
ما الجديد؟
شكليا، لا يختلف المجلس الجديد عن التجارب الاندماجية السابقة، إذ يقوم على النيات الحسنة، ورغبة الفصائل الظاهرية في الاندماج والوحدة، ضمن جسم تنظيمي موحد. لكن، ما يميز المجلس أن القائمين عليه، وعلى الرغم من أن بيانه التأسيسي يحث الفصائل على الاندماج والوحدة، يقرون بصعوبة هذا الاندماج، وينطلقون من واقعه، ولا يطمحون، آنياً، لنسفه أو تجاوزه، بل في التقليل من مضاره وتداعياته. لذلك، جرى اعتماد مبدأ تمثيل الجبهات، وليس تمثيل الفصائل. كما أنه يهدف، وبخلاف ما يظهر في البيان التأسيسي، للتنسيق على المستوى السياسيّ التكتيكي، أكثر منه على المستوى العسكري الميدانيّ. فالمشهد السوريّ مزدحم بالمبادرات السياسيّة، وكان جديدها طرح المبعوث الدوليّ، ستيفان دي ميستورا، تجميد القتال في مدينة حلب السوريّة. وبناء عليه، فإن مجلس قيادة الثورة الجديد يعي واقع التشرذم، وصعوبة التوحد الفصائلي، لكنه يحاول أن يكون منبراً سياسياً للكتائب، لجهة اتخاذ موقف موحد مما يطرح.
ولعل المتمعن في البيان التأسيسي يدرك أنه انطلق من مسلمات وأهداف عامة، تشترك عليها جميع الفصائل (إسقاط النظام، استقلالية القرار السوري، العدالة، الحرية، سيادة القانون، رفض الممارسات الخاطئة وظاهرة التكفير... إلخ)، وتقصد تجاهل القضايا الإشكالية، كالدولة الديمقراطية أو تحكيم الشريعة، الموقف الواضح من الائتلاف، التحالف الدولي وغيرها.
وأخيرًا، وبالنظر إلى التباينات الفصائلية القائمة، وتراجع حضور فصائل الجيش الحر في مقابل ازدياد نفوذ جبهة النصرة، فإنه من الصعوبة بمكان القول إن المجلس يشكل نقلة نوعيّة في مسار العمل المسلح السوريّ، من دون أن يعني ذلك تبخيس جهود القائمين عليه، ومساعيهم الحثيثة، في توفير ما يلزم لزيادة التنسيق بين الفصائل المسلحة على المستوى الوطني، وتجاوز البعد المناطقي أو الأيديولوجي، وحل خلافاتها المعقدة، أو التخفيف منها، والتشاور للوصول إلى مواقف سياسية موحدة، أو جامعة.