محمد عبد الحي: الليلة يستقبلني أهلي

23 اغسطس 2014
+ الخط -

بعد 25 عاماً على وفاة رائد تيّار "الغابة والصحراء"، الشاعر محمد عبد الحي، لا يزال سؤال الهوية مشتعلاً، ويقف خلف الكثير من النزاعات في السودان على عدة مستويات؛ ثقافية واجتماعية وسياسية، على الرغم من محاولات شعراء هذا التيّار في ستينيات القرن الماضي تلافي هذه الآثار باجتراح هوية توفيقية (الأفروعربية).

ولد الشاعر محمد عبد الحي (11 نيسان/ أبريل 1944 – 23 آب/ أغسطس 1989) في الخرطوم. وأسهم تنقل أسرته بين بقاع السودان المختلفة في إثراء مخزونه البصري والثقافي، وهو ما ظهر جلياً بعدها في شعره وفي تبنيه أفكاراً تسعى إلى الاندماج والتعايش بين الثقافة العربية والثقافات المحلية الأخرى، وكذلك ظهر في استخدامه صوراً ورموزاً طبيعية وثقافية غنية ومتعددة.

وتعدّ قصيدته "العودة إلى سنار" (1963) الأثر الأوضح والتعبير الأشمل عن تيار "الغابة والصحراء"، باتخاذها من "سنار" أو "السلطنة الزرقاء" (1504-1821) نموذجاً ورمزاً للهوية السودانية "الأفروعربية"، بديلاً للتنازع بين دعاة العروبة ودعاة الأفريقيانية في الستينيات، حيث تكونت سلطنة سنار من اتحاد القبائل العربية في الشمال (الصحراء)، والقبائل الزنجية في الجنوب (الغابة)، لتشكل معاً سلطنة قوية مركزها وسط السودان (السافنا/ الهجين).

لكن تيّار "الغابة والصحراء" لم يرضِ أولئك الذين رأوا فيه تقليصاً لدور الإسلام والهوية العربية في السودان، ولا أولئك الذين رأوا فيه تياراً عروبياً مستتراً.

مهما يكن من أمر، ظلَّ ما أنتجه شعراء هذا التيّار؛ محمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم؛ من العلامات الفارقة في مسيرة الشعر السوداني، وإن كان صوت قصيدة عبد الحي "العودة إلى سنار" هو الأعلى، رغم أنه كتبها وهو بعد في الثامنة عشرة.

وتتكون القصيدة من خمسة أناشيد هي البحر، المدينة، الليل، الحلم، الصبح؛ يؤسس فيها لمفهوم العودة من "غربة الهوية" إلى أول نموذج ناجح لامتزاج المكونات الثقافية والإثنية للسودان: سلطنة الفونج. وتشي القصيدة بما يذهب إليه التصدير الذي يبدأها به، عن قصة أبي يزيد البسطامي المعروفة: "قال: يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك؟ قال: طلب الحق. قال: الذي تطلبه قد تركته ببسطام. فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له".

ومنذ نشرها، ظلت "العودة إلى سنار" مثار تناول، إذ جاءت جديدة في أساليبها وموضوعها، تقترح طريقاً ثالثاً لم يلقِ إليه المثقفون السودانيون بالاً قبلها في تنازعهم بين الهويتين العربية والأفريقية.

لعبد الحي إسهام ذو مكانة في الأدب السوداني، إذ أصدر عدة كتب، منها دواوينه "العودة إلى سنار"، "السمندل يغنّي"، "حديقة الورد الأخيرة"، "الله في زمن العنف"، "رؤيا الملك (مسرحية شعرية)"، وكتبه: "الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي المعاصر"، "التجانى يوسف بشير"، "الملاك والفتاة: الضرورة والحرية عند أدوين مويير" (رسالة ماجستير من جامعة ليدز)، "التفكير والتأثير الإنجليزي والأمريكي على الشعر العربي الرومانتيكي" (رسالة دكتوراه من جامعة  أكسفورد)، إضافة إلى دراسات أخرى.

احتشدت حياة عبد الحي القصيرة (45 عاماً)، بكثير من النشاطات، حيث عمل أستاذاً في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة الخرطوم بعد تخرجه، ثم حصل على الماجستير من جامعة ليدز برسالة عن الشاعر أدوين مويير، قبل أن ينال الدكتوراه من جامعة أكسفورد. عاد بعد ذلك إلى بلده ليعمل أستاذاً للأدب المقارن والأدب الإنجليزي بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، ليعمل بعد ذلك مديراً لمصلحة الثقافة في عهد الرئيس جعفر النميري حيث أنشأ مركز ثقافة الطفل ونظم مهرجانات الثقافة بجانب نشاطات المسرح والتشكيل، وأسس بعد عودته إلى جامعة الخرطوم "مجلة الآداب"، وكان أول رئيس تحرير لها، كما قام بتحرير الملحق الثقافي لصحيفة "الأيام" برفقة يوسف عيدابي.

لكن بين كل أنشطته تلك، يظل الشعر هو النشاط الأكثر التصاقاً بعبد الحي حتى مماته. وهو من وصف الشعر في حوار معه، في آخر أيامه، بأنه: "حيوانٌ غريب، حصان جميل بقرن واحد، ولكنه أسطوري، قوي، والشاعر يركب الحصان هادئاً يقوده في مجاهل الذهن، أما إذا لم يستطع الركوب بقلب ثابتٍ: مات".

قصيدة "العودة إلى سنار"

دلالات
المساهمون