ذهبت مدام جمبرت إلى النوم الطويل ومع ذلك بقيت متيقّظة. فمن مثلها لا يتخلّى عن أحلامه ولو كان المانع موتاً. السيدة التي استهلكت العمر لآخره، غادرت الحياة بأحلامٍ لا تنتهي في التعليم.
في آخر لقاء بيننا دعتني لمشاركتها في تأليف كتاب. هكذا هي، لا تكتفي من الإنتاج سواء جاء على شكل محاضرة في صفّ، أو كتاباً، أو تأسيس مدرسة جديدة.
كانت وداد جمبرت كلما حادثت طفلاً في المدرسة لتقنعه بمسألة ما، قالت له: "أنظر. ها أنا المرأة العجوز التي أمامك أستطيع القيام بهذا الأمر. فكيف لا تستطيع أنتَ ذلك وما زلت في بداية الحياة؟". وصحيحٌ أنها أطفأت العمر عن أكثر من مائة عام قضت الجزء الأكبر منها في التعليم، غير أن قلبها بقي شاباً ولم يصبه الهرم أبداً. ظلّ دوماً قلب الفتاة التي تخرّجت بتفوّق من مدرسة الإنكليز، وصارت معلمة ومديرة لقسم البنات في الجامعة الوطنية في بلدة عاليه، وكانت بعد في أوائل عشرينياتها. المفارقة أن تلميذاتها سبقن التلاميذ الذكور في القسم، الذي كان يديره أستاذها، الأديب مارون عبود. وكي ترفع هذا الحرج عنه، عادتها في احترام مشاعر الآخرين، اتهمتهنّ بالغشّ للحصول على العلامات المرتفعة.
استفادت مدام جمبرت من جميع الظروف، التي مرّت بها منذ طفولتها. درست في زمنٍ كان تحصيل العلم فيه صعباً بل وربما مستحيلاً على الكثير من الفتيات، هي الشقيقة الأصغر لسبعة أشقاء. تزوّجت من جوزف جمبرت، الفرنسي الذي جاء للعمل في بيروت، فأعجب بها وسرقها من بيئة كانت تنظر إلى "ابن العم" على أنه "العريس" الوحيد. رفضت التمييز بين الذكور والإناث ونادت بالمساواة. أسّست مدرسة متواضعة في بلدتها عبرا (شرق صيدا)، وأخرى في المدينة. ومدرسة المدينة (اللبنانية العامة) التي أطلقتها في الستينيات ما زالت قائمة حتى اليوم. استغرب كثيرون خطوتها في ذلك الزمن، لكنها لم تأبه. وقد اعتنت بالمدرسة عنايتها بالبنات الثلاث اللواتي أنجبتهن.
نالت مدام جمبرت العديد من الأوسمة وشهادات التكريم المحلية والدولية. مع ذلك، ظلّت أوقاتها المفضّلة تلك التي تقاطع فيها صفّاً، بعد أن تستأذن معلّمته، لتجلس بين التلاميذ على المقاعد الخشبية.
ربما تكون مدام جمبرت سعيدة الآن لو وضعوا لوحاً بدلاً من شاهد يحمل اسمها فوق القبر، ولو جعلوا بالقرب منه مزهرية من الأقلام. ولعلّها تكون محظوظةً أكثر فتجد في العالم الآخر مجموعة من الصبيان والبنات، تجمعهم في حلقة صغيرة لتلعب دور المعلمة من جديد.
اقــرأ أيضاً
في آخر لقاء بيننا دعتني لمشاركتها في تأليف كتاب. هكذا هي، لا تكتفي من الإنتاج سواء جاء على شكل محاضرة في صفّ، أو كتاباً، أو تأسيس مدرسة جديدة.
كانت وداد جمبرت كلما حادثت طفلاً في المدرسة لتقنعه بمسألة ما، قالت له: "أنظر. ها أنا المرأة العجوز التي أمامك أستطيع القيام بهذا الأمر. فكيف لا تستطيع أنتَ ذلك وما زلت في بداية الحياة؟". وصحيحٌ أنها أطفأت العمر عن أكثر من مائة عام قضت الجزء الأكبر منها في التعليم، غير أن قلبها بقي شاباً ولم يصبه الهرم أبداً. ظلّ دوماً قلب الفتاة التي تخرّجت بتفوّق من مدرسة الإنكليز، وصارت معلمة ومديرة لقسم البنات في الجامعة الوطنية في بلدة عاليه، وكانت بعد في أوائل عشرينياتها. المفارقة أن تلميذاتها سبقن التلاميذ الذكور في القسم، الذي كان يديره أستاذها، الأديب مارون عبود. وكي ترفع هذا الحرج عنه، عادتها في احترام مشاعر الآخرين، اتهمتهنّ بالغشّ للحصول على العلامات المرتفعة.
استفادت مدام جمبرت من جميع الظروف، التي مرّت بها منذ طفولتها. درست في زمنٍ كان تحصيل العلم فيه صعباً بل وربما مستحيلاً على الكثير من الفتيات، هي الشقيقة الأصغر لسبعة أشقاء. تزوّجت من جوزف جمبرت، الفرنسي الذي جاء للعمل في بيروت، فأعجب بها وسرقها من بيئة كانت تنظر إلى "ابن العم" على أنه "العريس" الوحيد. رفضت التمييز بين الذكور والإناث ونادت بالمساواة. أسّست مدرسة متواضعة في بلدتها عبرا (شرق صيدا)، وأخرى في المدينة. ومدرسة المدينة (اللبنانية العامة) التي أطلقتها في الستينيات ما زالت قائمة حتى اليوم. استغرب كثيرون خطوتها في ذلك الزمن، لكنها لم تأبه. وقد اعتنت بالمدرسة عنايتها بالبنات الثلاث اللواتي أنجبتهن.
نالت مدام جمبرت العديد من الأوسمة وشهادات التكريم المحلية والدولية. مع ذلك، ظلّت أوقاتها المفضّلة تلك التي تقاطع فيها صفّاً، بعد أن تستأذن معلّمته، لتجلس بين التلاميذ على المقاعد الخشبية.
ربما تكون مدام جمبرت سعيدة الآن لو وضعوا لوحاً بدلاً من شاهد يحمل اسمها فوق القبر، ولو جعلوا بالقرب منه مزهرية من الأقلام. ولعلّها تكون محظوظةً أكثر فتجد في العالم الآخر مجموعة من الصبيان والبنات، تجمعهم في حلقة صغيرة لتلعب دور المعلمة من جديد.