طبّ العائلة من الاختصاصات الجديدة نسبياً، وهو ما قد يفسّر عدم إدراك الناس أهميّته في الرعاية الصحيّة الأوليّة. في حديث إلى "العربي الجديد"، يحاول الدكتور مروان الزغبي تصويب بعض الأفكار والإضاءة على هذا الاختصاص.
"النظرة الشاملة للإنسان هي التي شدّتني إلى طبّ العائلة". هذا ما يؤكّده الدكتور مروان الزغبي، قائلاً إن "المرء في البداية يحدّد خياراته: هل يحبّ الجراحة أم لا. أنا لا أحبها. ثانياً، هل يحبّ التواصل مع الناس أو العمل بأمور تقنيّة. أنا لست شخصاً يرغب في ملازمة المختبر طوال اليوم. إلى ذلك، فإن المقاربة الشاملة لطبّ العائلة، تجذبني. وهكذا كان". ويأسف الزغبي (41 عاماً) لأن طبّ العائلة، غير مفعّل جدياً في رسم السياسات الصحيّة التي تأتي من ضمن مسؤوليات قطاع الرعاية الصحيّة الأوليّة.
- كيف ينظر اللبنانيّون اليوم إلى طبّ العائلة؟
الناس يتعاطون مع طبّ العائلة كأنه طبّ عام، هذا أمر واضح. لديهم صورة محبّبة عن طبيب الصحّة العامة، فهو الطبيب القريب الذي لا يشبه الآخر الذي لا أستطيع التحدّث معه ولا الوصول إليه. لكن في الوقت نفسه، ثمّة ناحية سلبيّة. هم يرون في طبيب الصحّة، طبيباً إمكانياته العلاجيّة أقلّ من إمكانيات ذلك الذي لا أستطيع التحدّث معه ولا الوصول إليه.
لذا، يتوجّب علينا كأطباء عائلة أن نستفيد من تلك النظرة الإيجابيّة، أي الطبيب القريب الذي يمكننا سؤاله عما نريد بدون خوف من أن ينهرنا، وفي الوقت ذاته الإثبات أن بإمكان هذا الطبيب أن يملك إمكانيات، ومن ضمن إمكانياته التعاون مع الاختصاصات الباقية.
- لكن الناس ما زالوا على الرغم من ذلك يسرعون في الإجمال، إلى الطبيب المتخصّص. هل يعود الأمر إلى ثقافة ما؟
بالتأكيد، والثقافة لا تأتي من العدم. هي وليدة تجربة طويلة. الصورة المرسومة لا تأتي من فراغ، بل من تجربة. في مكان ما، كان ثمّة نقص في الرعاية الصحيّة الأوليّة. وما زلنا نرى في بعض المناطق، أن طبيب الرعاية الأوليّة هو "باش كاتب" يملك وصفات جاهزة. يتّصل به الشخص: "ألو حكيم. ماذا لديك للدوخة؟". ما من وصفة جاهزة للدوار، بل ثمّة عمليّة متكاملة. نعاين المريض، ونسأله مما يشكو، ونستعرض كل الاحتمالات الممكنة، قبل أن نشخّص حالته. وعلى أساس هذا التشخيص، نقدّم العلاج.
هذا ما خلق عند الناس ضعف ثقة في قطاع الرعاية الصحيّة الأوليّة ككلّ، ونحن ندفع ثمن ذلك اليوم بالرغم من كلّ محاولات التحسين. وتجربتنا تشبه تجارب دول أخرى كثيرة سبقتنا، لم تُعِدْ اختراع طبّ العائلة إلا لأنه يلبّي حاجة.
- ما هي هذه الحاجة؟
من جهة تلبّي حاجة الراعي الذي يدفع، ومن أخرى حاجة المريض. نحن يهمّنا المريض. لكن لا شكّ في أنها تلبّي الحاجة، عندما تكون الدولة هي الممسكة بكلّ الأمور وبالقطاع ككلّ. طبيب الرعاية الأوليّة يُعَدّ "حارس البوابة"، الذي يخفّض فاتورة الدواء والاستشفاء والطبابة. لماذا يخفّفها؟ لأنه قادر على حلّ أكثر المشكلات. بحسب الإحصاءات، إذا دُرّب أطباء رعاية صحيّة، يمكن تخفيض 70% من مشكلات الناس من دون اللجوء إلى اختصاصي.
من التدريب الجيّد، أن يتعلّم الطبيب متى ينتهي الموضوع عنده، ومتى يتوجّب عليه طلب رأي اختصاصيّ. ومن التدريب الجيّد، أن يفهم أن الطبّ استمراريّة وأنه سلسلة متكاملة. بالتالي، عندما أرسل مريضي عند اختصاصي، هذا لا يعني أنني خسرت مريضي ولا يعني كذلك أن الاختصاصي استأثر بمريضي. أنا أوجّهه إلى الاختصاصيّ، لأن الأخير يكمّل عملي الأساسيّ. وعملي لا ينتهي هنا. المريض قد يعود ليستوضح بعض الأمور التي لم يفهمها، أو ليستشيرني في قرار عمليّة محتملة. من المهمّ أن يشعر المريض بأنني لم أتخلّ عنه عندما أرسلته عند الاختصاصيّ، بل أنا أتابع حالته وأنسّق مع الأخير.
- الفكرة جيّدة، لكن كيف نعمل على إيصالها إلى الناس؟
نحن لا نوصلها. هم يشعرون بها، عندما تتحوّل جزءاً من الممارسة اليوميّة ويحسّون بأن لديهم قائد أوركسترا، ويدركون في الوقت نفسه أن قائد الأوركسترا لا يستطيع عزف كلّ الآلات الموسيقيّة، وهو ليس مضطراً إلى ذلك. هم يستطيعون العودة إليه عندما يتطلّب الأمر أكثر من عازف، فهو من يتولّى التنسيق في ما بينهم ويبقي الإيقاع مضبوطاً، لتحاشي أيّ تضارب بين عازف وآخر.
- هذه المهمّة تستلزم في الوقت نفسه عناية بالشقّ النفسيّ، أليس كذلك؟
من ضمن التدريب الخاص بأطباء العائلة، نجد الطبّ النفسيّ. لماذا؟ لأننا نعرف أن جزءاً كبيراً من الأمراض يأتي تحت فصل الأمراض النفسيّة الجسديّة، أي الأمراض التي يتداخل فيها العامل النفسيّ بالأعراض الجسديّة. بعض الأشخاص يختارون الغوص أكثر في هذا المجال، لكن آخرين يكتفون بما يُقدَّم في خلال سنوات التخصّص الأربع.
بحسب الإحصائيات العالميّة، المعاينات في مجال الرعاية الصحيّة الأوليّة (تختلف ما بين البلدان) هي ما بين 30 و60 – 70% على أساس نفسيّ جسديّ. واحد على ثلاثة أو اثنان على ثلاثة من الذين أعاينهم في كلّ يوم، هم من تلك الفئة. وهذا يشرح لماذا يستأهل هذا الموضوع أن نضيء عليه أكثر ونخصّص له وقتاً أكبر. مع الإشارة إلى أن علاج هذه الأمراض، هو الأصعب.
هؤلاء المرضى يتنقّلون من طبيب إلى آخر، ولا يشعرون بالرضا أينما ذهبوا ومهما ابتكرنا لهم من وسائل، في ما يتعلّق بالخدمة التي تلقوها أو بالنتيجة التي حصلوا عليها. هؤلاء هم بحاجة إلى من يرافقهم. وفي مرحلة ما، قد نقول للمريض: أنا غير قادر على شفائك، لكن بإمكاني مرافقتك والتخفيف من الإزعاج الذي تشعر به. وهذا يكفيه.
- أشرتَ إلى أن طبّ العائلة هو اختصاص قائم بذاته...
صحيح، وهو يستوجب أربع سنوات من التخصّص، بعد الحصول على شهادة في الطبّ العام (سبع سنوات في لبنان). وهو ما يعني أن طبيب العائلة لا يصبح كذلك، إلا بعد 11 عاماً.
هو اختصاص معترف به في نقابة الأطباء وفي وزارة الصحة، لكن الأمور تختلط على الناس لأنه جديد نسبياً. هم لا يدركون لماذا استُحدث، ما دام لدينا أطباء صحّة عامة والأمور تسير على ما يرام. لا يفهمون لماذا يدرس أربع سنوات إضافيّة ويعود ويعمل كطبيب الصحّة العامة.
اليوم، بدأ الناس يلمسون الفرق من خلال الممارسة. هذا لا يعني أن ما من أطباء يمارسون الطبّ العام بشكل جيّد. لكن ثمّة أشخاص موهوبون أكثر من غيرهم، ولديهم هذا الحسّ الإنسانيّ أكثر من غيرهم، والقدرة على المتابعة أكثر من غيرهم. لذا وُجِد طبّ العائلة حتى نتمكّن من متابعة المريض في الحياة اليوميّة بالحدّ الأدنى.
- في بلدان كثيرة، طبيب العائلة يتابع حتى المرأة الحامل...
طبّ العائلة كما قالب الحلوى، بالإمكان تناول القطعة التي نرغب فيها، أي بحسب الحاجة. نحن في بلد، عدد أطباء الأمراض النسائيّة والتوليد أكبر بكثير من عدد أطباء العائلة، ومن غير المنطقيّ بالنسبة إليّ متابعة امرأة حامل. لكن، لو كنا نعمل في منطقة نائية لا يتوفّر فيها اختصاصيّ في الأمراض النسائيّة، فأنا مضطر للمتابعة ولمساعدتها حتى في عمليّة الوضع. أحياناً أطباء العائلة يجرون عمليات ولادة قيصريّة.
نحن هنا نتحدّث عن طبّ في خدمة الجماعة. بحسب حاجات الجماعة، نكيّف مهاراتنا. وهنا إشارة إلى أن عدد أطباء العائلة في لبنان، ليس كافياً لتغطية حاجة البلد ككلّ.
مجال عملنا جدّ متنوّع. يمكننا العمل في طبّ أطفال والطبّ النسائيّ والطبّ الوقائيّ والطبّ النفسيّ والطبّ الداخليّ وإجراء الجراحات الصغيرة. حتى أن البعض قد يختار العمل في الطبّ التجميليّ... المجالات متنوّعة وكلّ واحد يكيّفها بحسب الجماعة المستهدفة. لمن يقدّم خدماته؟ وما هي حاجاتها؟
نحن نتابع الإنسان منذ يوم ولادته وحتى بعد موته، من خلال متابعة عائلته. لماذا؟ لأن اختصاصي هو الإنسان الكلّ، كما لدينا متخصّص في الجهاز الهضميّ وآخر بالتنفسيّ وآخر بالقلب وآخر بالرأس وآخر بالنفسيّة.
عندما يصف طبيب العظام دواءً يؤثّر سلباً على المعدة، مهمتي أنا الانتباه إلى ذلك. وعندما يريد طبيب آخر منح مريض مسنّ دواءً يطيل حياته عشرة أشهر، مهمّتي أنا مناقشة الأمر مع عائلته بما يحفظ كرامته وجودة عيشه. عندما أعلم أن أحدهم بدأ يعاني من الخرف، مهمّتي أنا تحذير عائلته وتوعيتها حول كيفيّة تفاقم الحالة. وعندما أعرف أن مريضي الذي هو مدير شركة مثلاً، بدأ يعاني من الباركنسون أو الشلل الرعاش، أحذّره من أن المصارف سوف تعلّق حساباته عندما يتغيّر توقيعه بسبب رجفة يده. مهمّتي هي إرشاده إلى كيفيّة معالجة هذا الأمر. هي تفاصيل ليست فقط طبيّة، بل أيضاً اجتماعيّة، ومهمّتنا التنبّه لها.
على مدار الساعة
تكاد ساعات النهار الأربع والعشرون لا تكفي الزغبي الذي يتنقل ما بين مستشفى الصليب للأمراض العقلية والنفسية (جل الديب - شمال بيروت)، والمركز الاستشفائي الجامعي أوتيل ديو دو فرانس (بيروت) حيث يضطلع بدور أكاديميّ، وبين معايناته لا سيّما في عيادته الخاصة. وهو إلى جانب تخصّصه في طبّ العائلة في جامعة القديس يوسف في بيروت ومستشفى أوتيل ديو، نال دبلوماً جامعياً في علم الأوبئة وشهادة جدارة في الأمراض النفسيّة والعقليّة، بالإضافة إلى دبلوم جامعيّ في أمراض السكّري من جامعة ليسستر البريطانيّة.
اقرأ أيضاً هَنا عازار: نقف حائرين أمام التوحّد الذي يعزل أطفالنا