تجاذبت أطراف الحديث مع صديق لي سافر إلى أوروبا منذ سنوات بعد أحداث فرنسا الأخيرة، أدركت من سياق النقاش أن الرجل قد "ألحد" وتأكد لي ذلك، وهو يكيل التهم والشكوك للإسلام وللمسلمين بشكل عام، تألمت كثيرا فهو صديق المراهقة العزيز إلى قلبي، وكم تشاركنا معا الأحلام حول المستقبل، جلست بعد عاصفة النقاش أتأمل حولي وأشد شريط الذكريات في رأسي متسائلاً.. كيف يمكن أن يلحد المرء بهذه السهولة؟ لكن التساؤل الأعمق الذي ألح عليّ.. ماذا تعنى كلمة ملحد؟!
قلبت في صفحات بعض الكتب فوجدت أن تعريف الإلحاد في اللغة يطلق على مطلق الميل، فالملحد هو المائل عن الصواب، فكل مشرك أو كافر هو ملحد لميله عن الحق الذي هو الإسلام، خلاصة الأمر إذن أن صاحبي مائل عن الحق ينكر من الأساس وجود الله.. كافر يعني! بهذه البساطة.
جدل كهنوتي
ببساطة لا تخلو من السخرية سألت صديقي الملحد: وانت مش مؤمن بربنا ليه؟ أجاب الرجل في ثقة.. لأن العلم لم يثبت وجوده! دخلت مع الرجل في جدال كهنوتي وعظي حول الإيمان ودلائل وجود الخالق، وألقى كل منا بعصاه للآخر ليدحض فكرته أو يهز ثقته بمعتقده، لكن السؤال الذي كان عصى موسى وأغلق النقاش ولو مؤقتاً.. ماذا لو أثبت العلم بعد مائة عام من الآن وجود الله؟ فسكت صاحبي ولم يعقب.
لم أخرج من النقاش بزهوه المنتصر، بل خرجت متعطشاً أكثر للحقيقة، فتحت درج مكتبي وأخرجت المصحف وقلبت في صفحاته وجلست أتأمله، هذا أقدس ما نملك اليوم، كلمات، سطور قالتها الذات التي نختلف على وجودها من عدمه، أحرجتني البساطة في الطرح الذي تقوله الآيات كأنما تقول لك "انظر حولك"، فتلك النظرة إن كانت موضوعية تبحث بشغف عن الحقيقة فستأخذ بيدك للنور، أدركت أن بعد صاحبي عن الوطن ووجوده في أحضان الغرب ربما يكون سببا كافيا لإلحاده، لكن ماذا عن هؤلاء الذين يلحدون وهم بيننا؟
من أطفأ النور
المصحف ذاته كان يمسك به يوماً رجل يحمل في جلسته وملابسه وكلماته كل معاني البساطة والتواضع والعلم كذلك، كانت أحاديث وخواطر الشعراوي منبتا لليقين في قلوب البسطاء، مركب إيماني يأوي الناس إليه في نهار الجمعة، يفك لهم شفرات تلك الكلمات المقدسة القابعة في ضفتي المصحف ما يزيد على الألف عام، بساطة تروي نبتة الإيمان كفلاح يهتم بزرعته ويرعاها ويصبر عليها أملاً في الحصاد، محطة إيمانية تربت عليها أجيال من المصريين، ويأتي يوم الإثنين ليلتف الناس حول العلم هذه المرة ممثلا في حلقات الدكتور مصطفى محمود الذي ما إن يبدأ تتر البرنامج الفريد في لحنه حتى تبدأ معه رحلة العلم والإيمان، ذلك المزيج الذي حافظ الرجل على غرسه في نفوس المصريين لما يزيد على عشرين عاماً، لا تعارض إذن ما بين العلم والإيمان كما يروج بعضهم بل هو مزيج متناسق متكامل لا غنى لطرف عن الآخر، هكذا إذن تربى جيل في نور العلم وبساطة الإيمان حتى انطفأت أنوارهما برحيل صاحبيهما وظهور الدعاة الجدد.
بيزنس الدعوة إلى الله
اختفت بساطة الشعراوي ليحل محلها قمصان (تيشرتات) عمرو خالد الأنيقة (الشيك)، حلت محل بدلة مصطفى محمود لحية محمد حسان وملابسه الخليجية الطراز، انتقلت ثقافة المصريين الدينية من الكتب والتلفزيون إلى الرصيف في صورة شرائط تباع للداعية فلان والشيخ علان، في تجارة تدر على أصحابها ملايين الجنيهات شهرياً.
امتلأت البرامج "الدينية" بإعلانات الشامبو والمنتجعات السياحية والسلع الاستهلاكية كفاصل بين دعوات الشيخ الباكية المتضرعة إلى الله. افتتحت القنوات الدينية واحدة تلو الأخرى، وتحول الداعية في نظر أصحاب البيزنس إلى دجاجة تبيض لهم ذهباً، فإعلان بسيط على القناة عن حالة الشيخ الصحية المتأخرة كفيل بأن يدر الدراهم والريالات والجنيهات على القناة من آلاف الرسائل النصية التي تنهال على القناة تعاطفاً مع الشيخ، يجلس الداعية في القناة وتلامس لحيته شريط الرسائل الذي يحتوي على إعلانات الزواج والترويج للسلع الجنسية والبضائع الصينية، ووسط كل هذا، لا بد لك عزيزي المشاهد أن تتأثر وأن تبكي وأن يزيد إيمانك بالله وتمسك بالإسلام.. أليس كذلك؟!
إسلامهم وإسلامنا والإسلام
استطاعت غزوة القنوات "المباركة" أن تصبغ المجتمع أو على الأقل شريحة كبيرة منه بمظهر إسلامي، تحولت صلاة التراويح إلى ما يشبه العادة الاجتماعية الرمضانية وامتلأت المساجد بالمصلين، لكن كل هذا التدين الظاهري لم ينجح في إيقاف ماكينة الفساد التي بات يعيش فيها أكثر المصريين، فلم تختف الرشوة ولا السرقة ولا التحرش ولا حتى الانحلال الأخلاقي الذي اجتاح الشارع المصري سلوكا وألفاظا ومعاملة، فالكل بات يدعي التدين.. لكن بأي دين.
أسقط الانقلاب حكومة الإخوان المسلمين، وكانت أولى أدواته في ضرب ما يسمى بالإسلام السياسي هي إطلاق حملة "إسلام مضاد" لإسلام الخصوم، فما كان حلالاً قبل 30 يونيو أضحى حراماً والعكس صحيح أيضاً، وإن كنت عزيزي المصري تتابع المشهد من المدرجات فستجد الرقص أصبح شعاراً للدين الوسطي الجميل، والراقصة أضحت أُماً مثالية وإن ماتت حال الرقص فهي شهيدة، تبادل الفريقان سهام الكفر والردة وأصبح الجميع خوارج وزنادقة، وإن كنت أشك في أن الشعب يعرف معاني تلك المصطلحات من الأساس، ولسان حاله.. ثكلتكم أمهاتكم جميعاً.
الدعاة إلى الصمت والسلطة
فجأة صمت الدعاة الجدد إلى الأبد، فلم يعد يسمع لهم صوت ولا همس، تماهى منهم من تماهى مع السلطة أو تمسح فيها، ولاذ الآخرون بصمت مطبق أمام أتباعهم المتعطشين لكلمة حق في وجه سلطان جائر، رفع بعضهم شعار "إعمل نفسك ميت" وظل يدعو "إلى الله" كأنه لا يرى ولا يسمع ما يحدث حوله، في حين ارتدى آخرون ثوب السلطة وأخذوا يوظفون طاقتهم في سب ولعن وتكفير الفريق المعارض والتفنن في تأليهه وتقديس السلطة ورموزها، تهاوى كل ما يمثله هؤلاء أمام الشباب، فجأة لم يجدوا في هؤلاء القدوة الحسنة التي ظلوا يتبعوها لسنوات، بل وجدوا مسوخاً مشوهة اقتاتت بدموع كاذبة على أموال الناس ودينهم، ومع كل هذا ما زال العجب مسيطراً على بعضهم فتجده ممتعضاً يمص شفتيه وهو يقرأ أن الإلحاد أصبح ظاهرة؟
في المعتقل
شاب خرج حديثا من أحد سلخانات النظام معلنا لأصدقائه أنه "ألحد"! وحين سئل عن السبب أجاب تلك الإجابة الصادمة "لم أجد الله معي في المعتقل".. داخل الزنزانة وتحت سياط التعذيب وفي أقبية المعتقلات يبهت الإيمان كشمعة في طريقها للانطفاء عند بعضهم، يضغط الجلاد بقوته كي يطفئ البقية الباقية من النور في قلوب هؤلاء، أو يوقد مكانها ناراً تحرق المجتمع فتحولهم إلى دواعش متعطشة للدماء، أو ملحدين لا يرفعون للدين ولا للأخلاق راية.
إن العمل جارٍ على قدم وساق لمسخ الشخصية المصرية وجعلها إما مسبحة بحمد النظام وراقصة في بلاطه، وإما سلبية تنخلع من كل شيء حتى الدين، وإما متطرفة تحمل ثأراً من المجتمع كله، ولا أمل في طوق نجاة قريب.
(مصر)
قلبت في صفحات بعض الكتب فوجدت أن تعريف الإلحاد في اللغة يطلق على مطلق الميل، فالملحد هو المائل عن الصواب، فكل مشرك أو كافر هو ملحد لميله عن الحق الذي هو الإسلام، خلاصة الأمر إذن أن صاحبي مائل عن الحق ينكر من الأساس وجود الله.. كافر يعني! بهذه البساطة.
جدل كهنوتي
ببساطة لا تخلو من السخرية سألت صديقي الملحد: وانت مش مؤمن بربنا ليه؟ أجاب الرجل في ثقة.. لأن العلم لم يثبت وجوده! دخلت مع الرجل في جدال كهنوتي وعظي حول الإيمان ودلائل وجود الخالق، وألقى كل منا بعصاه للآخر ليدحض فكرته أو يهز ثقته بمعتقده، لكن السؤال الذي كان عصى موسى وأغلق النقاش ولو مؤقتاً.. ماذا لو أثبت العلم بعد مائة عام من الآن وجود الله؟ فسكت صاحبي ولم يعقب.
لم أخرج من النقاش بزهوه المنتصر، بل خرجت متعطشاً أكثر للحقيقة، فتحت درج مكتبي وأخرجت المصحف وقلبت في صفحاته وجلست أتأمله، هذا أقدس ما نملك اليوم، كلمات، سطور قالتها الذات التي نختلف على وجودها من عدمه، أحرجتني البساطة في الطرح الذي تقوله الآيات كأنما تقول لك "انظر حولك"، فتلك النظرة إن كانت موضوعية تبحث بشغف عن الحقيقة فستأخذ بيدك للنور، أدركت أن بعد صاحبي عن الوطن ووجوده في أحضان الغرب ربما يكون سببا كافيا لإلحاده، لكن ماذا عن هؤلاء الذين يلحدون وهم بيننا؟
من أطفأ النور
المصحف ذاته كان يمسك به يوماً رجل يحمل في جلسته وملابسه وكلماته كل معاني البساطة والتواضع والعلم كذلك، كانت أحاديث وخواطر الشعراوي منبتا لليقين في قلوب البسطاء، مركب إيماني يأوي الناس إليه في نهار الجمعة، يفك لهم شفرات تلك الكلمات المقدسة القابعة في ضفتي المصحف ما يزيد على الألف عام، بساطة تروي نبتة الإيمان كفلاح يهتم بزرعته ويرعاها ويصبر عليها أملاً في الحصاد، محطة إيمانية تربت عليها أجيال من المصريين، ويأتي يوم الإثنين ليلتف الناس حول العلم هذه المرة ممثلا في حلقات الدكتور مصطفى محمود الذي ما إن يبدأ تتر البرنامج الفريد في لحنه حتى تبدأ معه رحلة العلم والإيمان، ذلك المزيج الذي حافظ الرجل على غرسه في نفوس المصريين لما يزيد على عشرين عاماً، لا تعارض إذن ما بين العلم والإيمان كما يروج بعضهم بل هو مزيج متناسق متكامل لا غنى لطرف عن الآخر، هكذا إذن تربى جيل في نور العلم وبساطة الإيمان حتى انطفأت أنوارهما برحيل صاحبيهما وظهور الدعاة الجدد.
بيزنس الدعوة إلى الله
اختفت بساطة الشعراوي ليحل محلها قمصان (تيشرتات) عمرو خالد الأنيقة (الشيك)، حلت محل بدلة مصطفى محمود لحية محمد حسان وملابسه الخليجية الطراز، انتقلت ثقافة المصريين الدينية من الكتب والتلفزيون إلى الرصيف في صورة شرائط تباع للداعية فلان والشيخ علان، في تجارة تدر على أصحابها ملايين الجنيهات شهرياً.
امتلأت البرامج "الدينية" بإعلانات الشامبو والمنتجعات السياحية والسلع الاستهلاكية كفاصل بين دعوات الشيخ الباكية المتضرعة إلى الله. افتتحت القنوات الدينية واحدة تلو الأخرى، وتحول الداعية في نظر أصحاب البيزنس إلى دجاجة تبيض لهم ذهباً، فإعلان بسيط على القناة عن حالة الشيخ الصحية المتأخرة كفيل بأن يدر الدراهم والريالات والجنيهات على القناة من آلاف الرسائل النصية التي تنهال على القناة تعاطفاً مع الشيخ، يجلس الداعية في القناة وتلامس لحيته شريط الرسائل الذي يحتوي على إعلانات الزواج والترويج للسلع الجنسية والبضائع الصينية، ووسط كل هذا، لا بد لك عزيزي المشاهد أن تتأثر وأن تبكي وأن يزيد إيمانك بالله وتمسك بالإسلام.. أليس كذلك؟!
إسلامهم وإسلامنا والإسلام
استطاعت غزوة القنوات "المباركة" أن تصبغ المجتمع أو على الأقل شريحة كبيرة منه بمظهر إسلامي، تحولت صلاة التراويح إلى ما يشبه العادة الاجتماعية الرمضانية وامتلأت المساجد بالمصلين، لكن كل هذا التدين الظاهري لم ينجح في إيقاف ماكينة الفساد التي بات يعيش فيها أكثر المصريين، فلم تختف الرشوة ولا السرقة ولا التحرش ولا حتى الانحلال الأخلاقي الذي اجتاح الشارع المصري سلوكا وألفاظا ومعاملة، فالكل بات يدعي التدين.. لكن بأي دين.
أسقط الانقلاب حكومة الإخوان المسلمين، وكانت أولى أدواته في ضرب ما يسمى بالإسلام السياسي هي إطلاق حملة "إسلام مضاد" لإسلام الخصوم، فما كان حلالاً قبل 30 يونيو أضحى حراماً والعكس صحيح أيضاً، وإن كنت عزيزي المصري تتابع المشهد من المدرجات فستجد الرقص أصبح شعاراً للدين الوسطي الجميل، والراقصة أضحت أُماً مثالية وإن ماتت حال الرقص فهي شهيدة، تبادل الفريقان سهام الكفر والردة وأصبح الجميع خوارج وزنادقة، وإن كنت أشك في أن الشعب يعرف معاني تلك المصطلحات من الأساس، ولسان حاله.. ثكلتكم أمهاتكم جميعاً.
الدعاة إلى الصمت والسلطة
فجأة صمت الدعاة الجدد إلى الأبد، فلم يعد يسمع لهم صوت ولا همس، تماهى منهم من تماهى مع السلطة أو تمسح فيها، ولاذ الآخرون بصمت مطبق أمام أتباعهم المتعطشين لكلمة حق في وجه سلطان جائر، رفع بعضهم شعار "إعمل نفسك ميت" وظل يدعو "إلى الله" كأنه لا يرى ولا يسمع ما يحدث حوله، في حين ارتدى آخرون ثوب السلطة وأخذوا يوظفون طاقتهم في سب ولعن وتكفير الفريق المعارض والتفنن في تأليهه وتقديس السلطة ورموزها، تهاوى كل ما يمثله هؤلاء أمام الشباب، فجأة لم يجدوا في هؤلاء القدوة الحسنة التي ظلوا يتبعوها لسنوات، بل وجدوا مسوخاً مشوهة اقتاتت بدموع كاذبة على أموال الناس ودينهم، ومع كل هذا ما زال العجب مسيطراً على بعضهم فتجده ممتعضاً يمص شفتيه وهو يقرأ أن الإلحاد أصبح ظاهرة؟
في المعتقل
شاب خرج حديثا من أحد سلخانات النظام معلنا لأصدقائه أنه "ألحد"! وحين سئل عن السبب أجاب تلك الإجابة الصادمة "لم أجد الله معي في المعتقل".. داخل الزنزانة وتحت سياط التعذيب وفي أقبية المعتقلات يبهت الإيمان كشمعة في طريقها للانطفاء عند بعضهم، يضغط الجلاد بقوته كي يطفئ البقية الباقية من النور في قلوب هؤلاء، أو يوقد مكانها ناراً تحرق المجتمع فتحولهم إلى دواعش متعطشة للدماء، أو ملحدين لا يرفعون للدين ولا للأخلاق راية.
إن العمل جارٍ على قدم وساق لمسخ الشخصية المصرية وجعلها إما مسبحة بحمد النظام وراقصة في بلاطه، وإما سلبية تنخلع من كل شيء حتى الدين، وإما متطرفة تحمل ثأراً من المجتمع كله، ولا أمل في طوق نجاة قريب.
(مصر)