مسرح مصر... الضحك للضحك

21 يناير 2016
هروب من جحيم السياسة (مواقع التواصل)
+ الخط -
خلال السنوات العشر الماضية لم يرفع الستار عن المسرح إلا نادراً، ولم يجد محبو المسرح أمامهم إلا مسرحيات هشة سطحية بنجوم الصف الثالث، تقدم لهم كوميديا ثقيلة الظل، أو مسرحيات وليدة على مسرح متواضع لشباب مجتهد يحاول أن يعيد المسرح المصري ذا التاريخ العريق إلى دوره الثقافي الحقيقي.


كانت تلك المحاولات على سبيل المثال تتم على خشبة المسرح القومي الذي أنعشه يحيى الفخراني بتجربتة الرائدة "الملك لير" أو داخل مسرح قصور الثقافة، أو حتى داخل ساقية الصاوي في الزمالك، وتعد تجربة مسرحية "قهوة سادة" تجربة موفقة للغاية في اتجاه المسرح الاجتماعي السياسي الساخر، وقد حظيت بانتشار وقبول جماهيري واسع لتصبح مفرزة للعديد من المواهب التي انطلقت في السينما والتلفزيون، وأصبح أبناؤها ضمن جيل النجوم من الفنانين المعاصرين.

أما المسرح التجاري فقد أُسدلت ستارته وأطفئت أضواؤه بعد أن اتجه معظم الفنانين الكبار إلى الدراما التلفزيونية التي سال لعابهم أمام الملايين التي يتقاضونها مقابل مسلسل واحد في العام، مقابل فن لا يُبذل فيه نصف الجهد والتعب والاجتهاد الذي يبذل على خشبة المسرح الذي هجره الجمهور لارتفاع تكلفته وهبوط محتواه.

البحث عن بقعة ضوء
نختلف أو نتفق مع الفنان أشرف عبد الباقي، إلا أنه يظل نجما كوميديا حقق رصيداً لا بأس به لدى الجمهور باجتهاد طيلة السنوات العشرين الماضية، وظل الرجل في صعود وهبوط حتى قدم تجربته الكوميدية التلفزيونية "راجل وست ستات" التي لاقت نجاحا جماهيريا عريضا.

وبالرغم من أن أشرف عبد الباقي هو خريج معهد الفنون المسرحية، فقد كانت بداية تعارفه مع الجمهور من خلال السينما عبر أدواره الكوميدية البسيطة في أفلام عادل إمام وغيرها.

إلا أنه عاد إلى المسرح وكانت له بصماته في العديد من المسرحيات الكوميدية، مثل "باللو" و"لما بابا ينام" وغيرها، وكانت قدرته واضحة على التألق على خشبه المسرح، واستخدامه لإمكاناته الفنية بكاملها وأهمها تفاعله مع الجمهور، وهو ما لا يتاح له عبر شاشتي التلفزيون أو السينما اللتين تحدان كثيرا من تفاعله الآني واستمتاعه برد فعل الجمهور، وكان لافتا طيلة السنوات الماضية اختفاء الرجل عن الساحة ومحاولته المتواضعه الظهور عبر بعض البرامج التي لم يكتب لها النجاح إذا ما قورنت بغيرها من أعماله.

تياترو مصر... نقطة ومن أول السطر
بعد مرور ما يزيد على أربع سنوات تراجع فيها إنتاج أشرف عبد الباقي الفني، فوجئ الجمهور بالإعلان عن موعد لعرض مسرحية كوميدية جديدة تحت عنوان "تياترو مصر"، بهذا الاسم المقتبس من أربعينيات القرن الماضي، عاد عبد الباقي إلى جذوره المسرحية، من خلال إنشائه فرقة مسرحية في الزمن الصعب.

فرقة؛ هو الفنان الوحيد الذي يعرفه الجمهور من بين أعضائها، والبقية من الشباب المغمورين الذين رأى فيهم عبد الباقي نجوما يستطيعون انتزاع الضحك وإشعال الصالة بالتصفيق من جديد، وبالرغم من غرابة الاسم "ياتيرو مصر" إلا أن وقعه كان جيدا على الجمهور.

وكعادته بسيطا وتلقائيا جاء رده على إحدى الصحافيات التي سألته عن أسباب تكوينه تلك الفرقة، متوقعة أن يكون الرد بأنه يريد إعادة أمجاد المسرح من جديد، ليفاجئها بقوله: "لم تكن تعرض علي أيه أعمال فنية مطلقا، وقد تعودت أن أخبر بناتي في كل صباح أنني ذاهب للعمل!!".

فكرة جريئة ونتيجة غير متوقعة
وجد المصريون أنفسهم أمام تجربة تستحق الدعم والتأييد والمتابعة، مسرح بسيط غير متكلف في ديكوراته ولا استعراضاته ولا ملابس فنانيه، مسرح يعرف جمهوره مسبقا أن فنانيه لا يتقاضون الملايين ولا يبيعون تذاكر مسرحياتهم بمئات الجنيهات.

ولدت مع العرض المسرحي الجديد فكرة جديدة، وهي نقل المسرحية تلفزيونيا بعد العرض مباشرة، تجربة جديده كليا وجريئة في الوقت نفسه، نقلت المسرح إلى المنازل وضاعفت حجم المشاهدة، وبالرغم من احتمالية ثأثير البث على حجم حضور الجمهور إلى المسرح، إلا أن الجميع فوجئ أن المسرح غدا "كومبليت" مكتمل الصفوف كل ليلة! ليكون ذلك بمثابة إعلان عن تشوق الجمهور ودعمه المسرح المفتقد.

وعلى عكس المتوقع ساهم البث التلفزيوني في تحقيق دعم مادي هائل عبر الإعلانات التي تسبق العرض، مع الاحتفاظ بهامش قليل من التداخل الإعلاني لا يفسد المتابعة، وليساهم كذلك البث التلفزيوني في تلقف وسائل التواصل الاجتماعي للمقاطع الأكثر كوميدية في العرض لتصبح أكبر دعاية لفناني المسرح الذين صعدت شعبيتهم ولمعت أسماؤهم في وقت قياسي.

التجربة ما لها وما عليها
لا شك في أن تعدد الشخصيات داخل فرقة "تياترو مصر" التي تحولت بعد ذلك لفرقة مسرح مصر، يعتبر واحدا من عناصر الجذب الجماهيري، كذلك واقعية الحوار واقترابه من لغة الشارع المصري بواقعها وسلبياتها وإيجابياتها، وهو ما أشعر الجمهور بأن تلك الشخصيات انعكاس حقيقي للمجتمع، وإن كان يؤخذ على الفرقة كونها تعيد الكثير من "إفيهاتها" المضحكة وتعليقاتها الساخرة المتكررة التى أصبحت لصيقة بشخصيات أبطالها، وأصبح تكرارها نوعا من المغامرة التي تنذر بملل الجمهور، ولكن مع هذا كله يؤخذ في الاعتبار مدى صعوبة أن تعرض للناس أكثر من مسرحية في الشهر الواحد، ويصبح الأمر بالرغم من دوره في الجذب والتجديد، لكنه في ذات الوقت باب للتكرار والتقليد، إذا لم يبتكر القائمون على التأليف موضوعات جديدة ومبتكرة.

ما لن تجده في مسرح مصر
استطاعت تلك الفرقة الشبابية البسيطة أن تعيد الجمهور للمسرح، وأن تعيد الضحك لجمهوره بعد سنوات غابت فيها أضواء المسرح ولم يرفع فيها الستار، وفي وقت عجزت السينما عن تلبية رغبات الجمهور بخضوعها لإمبراطورية السبكي وشركاه، قدم مسرح مصر وجبة من الضحك لجمهور احترف البكاء طيلة السنوات الماضية، بكاء على حاله وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لم يقدم مسرح مصر السياسة ولن يقدمها، لمعرفته أن جمهوره فارّ من جحيم السياسة وقتامتها، ولن يقدم مسرح مصر التوجيهات الأخلاقية والاجتماعية وإن حاول ذلك ذرا للرماد، وقد طاولته الاتهامات بالتفاهة والسطحية من النقاد كونه لا يقدم محتوى أدبيا أو أخلاقيا عميقا. ما يقدمه مسرح مصر في الحقيقة هو وجبة من الضحك للضحك، ساعة من الهروب من الواقع وآلامه ومشاكله التي تتعقد يوما بعد يوم، ولا يجد المصريون لها حلا قريبا يلوح في الأفق، واحة من الراحة ينسى فيها المشاهد واقعه أو يضحك عليه.

(مصر)
دلالات