المسيحيون ليسوا بأفضل حال في العراق. هم في تناقص مستمرّ وسط الأوضاع الأمنيّة التي تشهدها البلاد منذ سنوات، وليس من السهل لقاء عراقيّين متقدّمين في السنّ يروون ذكريات الماضي الخاصة بعيد الميلاد.
أبو أدور، ليس من هؤلاء الذين راحت "العربي الجديد" تبحث عنهم، لكنّه يستعيد عيد ميلاد الأيام الغابرة. هو في الرابعة والستين من عمره وقد نزح من مدينة الموصل إلى مدينة إربيل في إقليم كردستان العراق، بعدما سيطر تنظيم "داعش" على مسقط رأسه. يروي: "كنّا نستعد جيداً ليلة العيد. وكانت أمهاتنا ينظّفن البيوت ويصنعنَ الحلويات. كانت عوائل الموصل المسيحية تصنع الكليجة، إمّا المحشوّة بالتمر أو الجوز أو السمسم أو جوز الهند. وفي فترة لاحقة، في ثمانينيات القرن الماضي، راحوا يصنعون البقلاوة وغيرها بعدما تداخلت العادات بين سكّان الموصل المسلمين والمسيحيين. كانوا يتبادلون الحلويات في مواسم الأعياد المختلفة".
ويتحدّث أبو أدور عن "القداديس التي كانت تُقام في الكنائس ليلة عيد الميلاد، فتشارك فيها العائلات مجتمعة عند منتصف الليل. كانت تستمرّ حتى الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، لكنّ الظروف اقتضت تغيير توقيتها، وأصبح المؤمنون يقصدون الكنائس عند الساعة السادسة من صباح العيد". وبعد قدّاس العيد، "تبدأ زيارات منازل الأقارب، بحسب ترتيب صلة الرحم. منزل الوالدَين، بعده منازل الإخوة والأخوات وثمّ أهل الزوجة. خلال تلك الزيارات، كان الأطفال يحصلون على عيديّتهم، لتغمرهم فرحة كبيرة جداً". كذلك، يتبادل الجيران التهاني بالعيد، فيقصدون بعضهم بعضاً، مسلمون ومسيحيّون. "هذا ما كان"، بحسب أبو أدور. أمّا اليوم، "فقد أصبح الحال على غير المعهود. اختفت مشاهد كثيرة، كانت قد استمرّت لعقود طويلة. فالزيارات صارت محدودة جداً، ولا تحصل إلا بعد موافقة العائلة التي نرغب في معايدتها. في الماضي، كان الزائرون يحضرون من دون موعد مسبق ومن دون اتفاق". إلى ذلك، يتبادل المحتفلون بالعيد اليوم التهاني عبر رسائل نصية قصيرة على الهواتف المنقولة، وفق ما يؤكد أبو أدور. من جهة أخرى، لم تعد عائلات كثيرة تتمسّك بشجرة العيد. وإذا ما أصرّ أشخاص عليها، فهي تأتي صغيرة في الغالب.
من جهته، لا يشعر وسام - تحفّظ عن ذكر اسم عائلته - وهو في السابعة والخمسين من عمره، بمظاهر الاحتفال بعيد الميلاد. هو من سكّان العاصمة بغداد، ويقول: "إن وجدت زينة خاصة متواضعة خلال موسم العيد هنا وهناك، إلا أنّ كلّ شيء قد تغيّر. اختفت نكهة عيد الميلاد وطابعه الجميل، إذ راح الخوف والقلق يبدّدان الفرح".
أمّا دلال خالد، من سكّان محافظة كركوك، فهي في الخمسين من عمرها وتشير إلى أنّ "ما نقوم به اليوم لا يختلف عن العادات والتقاليد السابقة. لكنّ لذّة العيد ونكهته اختفت في الوقت الحاضر. في الماضي، كانت العائلات تجتمع في العيد، لكنّها اليوم لم تعد مكتملة. نصفها هاجر إلى خارج البلاد بسبب الأوضاع القائمة، أمّا النصف الثاني فيكتفي بالمعايدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو تطبيقات الهواتف المحمولة المختلفة برسالة أو من خلال مكالمة هاتفية باردة". تضيف: "من المؤكد أنّ قداديس ليلة العيد ما زالت قائمة، إلا أنّ كثيرين يسكنون في أماكن بعيدة أو مناطق غير آمنة. لذا يتعذّر عليهم الحضور ليلة العيد، فيشاركون في قدّاس صباح يوم العيد، ليبدأوا بعده زياراتهم".
وتوضح خالد أنّ "موسم العيد يبدأ مع ليلة الميلاد في الرابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول، ويستمرّ حتى السادس من يناير/ كانون الثاني، أي عيد الدنح (أو الغطاس). هذا أمر ما زلنا نحافظ عليه. وخلال هذه الأيام، نتبادل التهاني والمعايدات".
مهجّرون إلى خارج البلاد
ما زالت بعض مظاهر عيد الميلاد قائمة في العراق، غير أنّ "طعمها اختلف ولم تعد احتفالاتنا جميلة". هذا ما تؤكده ماريا شمعون (52 عاماً)، من محافظة نينوى. "أصبحنا مشتّتين ومهجّرين لاجئين ونازحين. كانت الأعياد سابقاً أجمل، إذ كانت العائلات تجتمع. لكنّ كثيرين من مسيحيي العراق، خسروا أقاربهم وقد هجروا البلاد".