19 أكتوبر 2024
مشكلات السودان وأهداف الثورة
تفجّرت الثورة السودانية في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، بعد ارتفاع أسعار الوقود والخبز والمواد الأساسية. توسع عدد المشاركين فيها، وديمومتها، وانتقالها إلى أغلبية مدن السودان، أجبر الرئيس عمر البشير على الرحيل، بعد تدخّل الجيش، في 11 إبريل/ نيسان 2019، وبدأت بعد ذلك مرحلة تفكيك النظام بأكمله. يتم التفكيك بقوة التظاهرات، والتي لم تغادر ساحة الاعتصام الرئيسية. قوى الأمن والجيش فشلت في إنهائه مرات، بل وقد استلم الجيش زمام الحكم، وعزل البشير، واعتقل معظم رموز حكمه؛ الجيش هو جيش البشير، ولنلاحظ ألاعيب قياداته، عبر تشكيل مجلس عسكري انتقالي، بالاتفاق مع البشير نفسه، والتغيير فيه تباعاً، وبما يسمح بضبط الثورة و"تلهيتها" عن استلام السلطة هي بالذات. الثورة هي التي تفرض كل هذه التغيرات، ولكنها تتدرج في الوصول إلى أهدافها بدورها أيضاً؛ وهدفها المرحلي: تشكيل حكومة مدنية ومجلس سيادي "مدني وعسكري"، ومجلس تشريعي انتقالي، وأن تكون نسبة مشاركة المرأة في كل هذه الهيئات 40%، وكذلك تمثيل التنوّع الإثني، من أجل إدارة شؤون البلاد، ريثما تتهيّأ شروط الانتقال الديموقراطي.
مشكلات السودان
أبرز مشكلات السودان الاقتصادية أنه يعاني ديناً تجاوز 65 مليار دولار، وتضخماً في العملة فاق 70%، وهناك تهميش الصناعة والزراعة، والنهب المنظم للاقتصاد وللثروات، وفشل تجربة البنوك الإسلامية، وقد بدأت ملفات الفساد تفتح أمام القضاء، وطاولت عمر البشير ذاته. مشكلات السودان تتعلّق أيضاً في شكل النظام السياسي، كنظام استبدادي، ويستند إلى أحكام دينية خاصة، وفقاً لتأويلاتٍ تتناسب مع البشير ونظامه، وهناك مشكلة الهوية والتنمية في الأقاليم، والصراع حول هوية السودان يعود إلى ما قبل الاستقلال، وسَبّبَ حربين أهليتين، من 1955 إلى 1971، ومن 1982 إلى 2005، وطاول معظم أقاليم السودان، ويتمحور حول سؤال ما إذا كان السودان دولة إسلامية عربية أم دولة متعددة الثقافات والأعراق. كان لرفض السودان الشمالي الاعتراف بالتنوع، ومحاولة فرض الهوية العربية الإسلامية على كامل أقاليم السودان، دور مركزي في الحروب الأهلية، وكذلك ساهم النظام الاستبدادي في حروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وجبال النوبة وآيبي؛ وبالتالي، يفتقد نظام "ثورة
مع البشير وحسن الترابي 1989، استعاد النظام، ودعّمَ ما كان قد أرساه "الإمام" النميري من أحكام وأنظمة إسلامية، قبل 1985 وتعزّز ذلك بعد انقلاب البشير على حسن الترابي 1999، وطوال تلك الفترة، وعلى الرغم من التوسّع بأعمال استخراج النفط، لم يتجه السودان نحو النهوض، وبدلاً من ذلك، حافظ البشير على رؤية حسن الترابي في شؤون الحكم، أي لم يقطع مع أفكاره الإسلامية، وقد همّش مؤسسات الدولة، وشكل أجهزة ومليشيات شعبية وطلابية تابعة للمؤتمر الوطني، أي للحزب الحاكم، وليس للدولة، وكانت منظماتٍ "إسلامية" بامتياز. وفي هذه الأجواء، اشتدّ سعير الحرب الأهلية مع الجنوب "المسيحي والإثني"، وهو ما أدى إلى ويلاتٍ في السودان بشقيه، الجنوبي والشمالي، في آن واحد.
إذاً هناك مشكلات متعددة، اقتصادية وسياسية وقومية وعرقية وقبلية، وجميعها أدت إلى أن يصبح النظام ضعيفاً، ويفتقد الرئيس إلى سياسات قوية، ويصبح معزولاً إقليمياً ودولياً؛ وقد أنتجت الجرائم في إقليم دارفور، والذي شهد مجازر جماعية وممارسات مافيوية، أحكاماً قضائية على عمر البشير نفسه، عام 2008، وأيضاً فُرضت عقوبات اقتصادية على السودان، حينما استضاف أسامة بن لادن من 1991 إلى 1996، وما زالت تلك الأحكام والعقوبات مفروضة على البلد.
حيثيات تاريخية
في حيثيات انقلاب 1989 أن البشير أُتي به، لإذاعة خبر الانقلاب، واتُفِق معه على أن يحكم هو، ويذهب حسن الترابي إلى السجن، تفادياً للربط بين الانقلاب والجبهة الإسلامية القومية. كان الانقلاب من تدبير حسن الترابي، وجبهته، وللخلاص من النظام الديموقراطي السابق، واستلام نظام الحكم بشكل كامل. رافق انقلاب البشير على الترابي 1999 تأكيد البشير على الربط بين الدين والدولة، ورفض الاعتراف بحقوق الجنوب، وهذا سبَّب استمرار الحرب إلى 2005، حيث تمّ التوصل إلى اتفاقية السلام الكامل في نيفاشا، والتي نصت على الاستفتاء في
واجه هذا النظام الهشّ حركاتٍ مسلحة للانفصال وقمع القوى السياسية بشكل كبير، وحاول اللعب السياسي عبر مبادراتٍ عديدة، من أجل الانتقال الديموقراطي وآخرها 2014، ولكنها كلها فشلت، لأنها كانت لتمرير الوقت، أو لإجراء انتخاباتٍ نيابية ورئاسية تُشرع حكمه، وانتقاله من كونه انقلاباً إلى كونه نظاماً سياسياً. رداءة السياسات العامة للبشير أوصلته إلى أن يكون معزولاً، ومتأرجحاً، بين علاقات مع العراق ما قبل سقوط صدام حسن، ثم مع إيران، ثم السعودية، وأخيراً كانت هناك تقارير تشير إلى تنسيقٍ كبير مع الإسرائيليين، وكذلك أيّد الثورة السورية 2011، ثم انعطف نحو روسيا وتصالح مع النظام السوري. وكانت رحلته إلى دمشق في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2018 من أسباب الثورة عليه، وتصاعدها.
مع انفصال الجنوب، خسر السودان الشمالي أكثر من 80% من موارد النفط، حيث تتركز في القسم الجنوبي، وحينها عمّت الثورات الوطن العربي. وبخسارته تلك، ارتفعت أسعار كل المواد، وتضخّمت قيمة العملة، وأدى ذلك إلى مظاهراتٍ حاشدة، استطاع نظام البشير قمعها، وتكرّر الأمر في 2013، وأيضاً استطاع قمعها، ولكن المظاهرات تجددت منذ 2016 ولم تتوقف تقريباً. جاءت المظاهرات هذه في سياق اعتماد نظام البشير على سياسات ليبرالية جديدة، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، ولكن شدة القمع وتفتت المعارضة وشقه صفوفها وصفوف الحركات المسلحة، ساعدته على التخلص من المظاهرات حينها.
عام الثورة ودور المرأة
في أواخر 2018، وتهرباً من الأزمة الاقتصادية أيضاً رفع أسعار الخبز والوقود، وهذا ما شكّل انهياراً كبيراً في العملة، وتسبب بمظاهرات ضخمة، بدأها تجمع المهنيين السودانيين، والذي تأسس في عام 2016، وفاجأه توسع فكرة الاعتصام إلى مظاهرات ضخمة، وهذا ما جعله يطوّر من رؤيته، ويعتمد القطيعة مع نظام البشير ويطالب برحيله.
لوحظ دور مميز وقوي للمرأة السودانية في المظاهرات، وهناك تساؤلاتٌ كبرى عن سبب ذلك. هنا تجب قراءة النظام العام الذي تبناه عمر البشير منذ 1992، وزاد في التشدّد فيه 1996، وهذا أدى هذا إلى حرمان المرأة من أغلبية حقوقها، وكانت العقوبات الشديدة، من الجلد والقيود على اللباس والسفر والحركة والحريات الشخصية، سبباً كبيراً لتلك المشاركة الكبرى في مختلف المظاهرات التي عمّت السودان، وهو ما دفع "إعلان الحرية والتغيير" ليؤكد على حقوق المرأة، ونسبة مشاركتها 40% في مؤسسات الدولة التي يزمع تشكيلها حالياً ومستقبلاً.
السودان يتوحّد
التفتيت الذي أحدثه عمر البشير في البنية الاجتماعية السودانية أوصل نظامه إلى الانهيار، إذ انقلبت عليه أغلبية الفعاليات السياسية والدينية والإثنية، بل والعسكرية، وأوقفت الحركات المسلحة كل نشاطاتها، ريثما تنتهي عملية انتقال السلطة، وهي رسالة كذلك لقيادة الثورة، بأن الحروب السابقة كان سببها نظام البشير، وأن تفكيك نظامه سيكون الأساس لتلبية مطالب الشعب السوداني في كل الأقاليم، وهذا بالضبط ما ينتظره أهالي دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، وربما جنوب السودان ذاته.
مع تطور الثورة السودانية، وبروز تجمع المهنيين؛ أهم تكتل قيادي "تنضوي فيه مختلف النقابات السودانية المستقلة عن نقابات نظام البشير"، وانضوائه ضمن تحالف الحرية والتغيير، والذي يجمع أغلبية تجمعات القوى السياسية المعارضة، "تحالف نداء السودان، والإجماع السوداني، والتحالف الاتحادي المعارض، وتجمع المهنيين، ومجموعات عديدة كثيرة، وانضواء أغلبية القوى السياسية والثقافية والنسائية الفاعلة ضمن رؤية "التحالف"، فإن السودان المفكك يتجه نحو الوحدة، وربما هذا ما سيسمح بإعادة بناء هوية السودان الوطنية، هوية تتضمن التعدد الإثني والديني، وبما يتجاوز صراعات الهوية القديم، والتي رافقت هذا البلد منذ ما قبل الاستقلال، وكانت من أسباب تدهور السودان، على الصعد كافة.
الجيش والسلطة
شكّل عمر البشير الجيش، ولا سيما قيادته، وفقاً لرؤيته، وقد فَسُدَت بفساده ونهبه السودان. ومن هنا، لا يمكن لقيادة الجيش هذه أن تصون البلاد، وأن تتخلّى بسلاسة عن الحكم الذي آل إليها. بدا ذلك من خلال المماطلة في لقاءات لجنة التفاوض في "إعلان التغيير والحرية"، وفي لقاءات أجراها مع قوى سياسية وشخصيات كانت متحالفة مع عمر البشير، وكذلك في المشاورات المستمرة، والتي بدأت قبل عزل البشير، بين قيادات من جيشه ومسؤولين من السعودية والإمارات، والتي انتهت بدعمٍ مالي ونفطي محدودٍ. الإشارة هنا إلى السعودية
للسودان تاريخ من الانتفاضات واستلام الحكم للمدنيين، وكذلك هناك تاريخ للانقلابات العسكرية. وإذا كان صحيحاً أن درس التاريخ يساعد في تلمس الطريق نحو المستقبل، وقد يجنّب تكرار الحدث القديم، ولكن قياساً كهذا ليس صحيحاً، فشروط السودان الحالية تشبه شروط بقية البلدان العربية التي دخلت بسيرورة ثورة منذ نهاية 2010، ولم تتوقف حتى لحظته. وعلى الرغم من محاولات الثورات المضادة وداعميها إيقاف الثورات، وتخميد المجتمعات. وعلى الرغم من محاولات الدول العظمى جعل سورية نموذجاً دموياً وحرباً أهلية، وأن وضع سورية مصير كل ثورة جديدة، فإن للثورات شروطها الواقعية، وتنطلق من اعتباراتٍ تتجاوز عقلية المؤامرة ومصالح الدول.
شرارات الثورات العربية، وعلى الرغم من تشابه أسبابها، مختلفة، أما مطالبها فمتشابهة، وهي ترفض كل تنازل عن الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. عدم تحقق ذلك كله هو بعينه ما يجدّد الثورات والانتفاضات والتظاهرات، وهذا يشمل كل الدول العربية، والاستثناءات ليست بالأهمية التي يعتدّ فيها. شروط السودان والجزائر متشابهة، وقد خرجت مظاهرات فيها ومنذ 2011، ولكنها توقفت لأسبابٍ متعددة، وكان للقمع دور مركزي، ولكن هناك أسباباً أخرى، وقد تجدّدت فيها إلى أن وصلنا إلى شرارات قوية (رفع الدعم في السودان، والعهدة الخامسة لبوتفليقة في الجزائر). والمراد قوله هنا إن كل ألاعيب الجيش في السودان، والدعم الخارجي له، ومحاولات الأحزاب القديمة لاستعادة النظام، لن تستطيع إيقاف التغيير؛ فهناك درس الثورات العربية الجديدة، وليس التاريخ فقط، وهناك النظام الغارق في الأزمات، وهو في وضعٍ يمنع قيادة الجيش من إيقاف الثورة واستلامه الحكم مدة طويلة.
الثورة انتصرت ومشكلات تتطلّب الحل
لن تتراجع ثورة السودان أبداً، ولن تتخلى عن الاعتصام المفتوح، ولن يسمح صغار ضباط الجيش لقيادته في الاستمرار بالمماطلة، وأيضاً لن تساهم المساعدة الإقليمية في ذلك، وفي
ثورات مستمرة
تكثر المؤشرات على أن الثورات التي انطلقت في 2011، واتخذت طابعاً سياسياً مكثفاً، أي مسألة الانتقال الديموقراطي، لم تعد وحدها القضية الأساس، وصارت التظاهرات والاحتجاجات
قضية تسليم السلطة للمدنيين مما لا تستوي الأمور بدونها. ما ينتظره السودانيون بحق هو الانتقال إلى النظام الديمقراطي، وبعيداً عن روح الانتقام والثأر، وعبر محاكمة كل رموز الفساد، وفصل الدين عن الدولة، وأن تتمثل الهوية الإثنية لمختلف أعراق هذا البلد في الدستور والقوانين، وإقامة أفضل العلاقات مع الجنوب، وكذلك رؤية موضوعية لكيفية تطوير الاقتصاد وتطبيق العدالة الاجتماعية، فهل يتمكّن السودان من تجاوز أزماته الداخلية وإعادة الجيش إلى البلاد، وتحييد الجيش والدين عن الحكم، وإقامة علاقات متكافئة مع كل الدول. ليست هذه أحلاماً، وهي أهداف الثورات العربية كافة. ألا يختط السودان للدول العربية نموذجاً وطنياً نهضوياً على المستويات كافة؟ ربما.