* يلفت النظر عنوان كتابك الأوّل "كيف تشعر ولديك إحساس أنك مشكلة؟". أتشعر بشكل شخصي أنك مشكلة في الولايات المتحدة؟
شخصيًا لا. لا أشعر بأنني مشكلة، ولكنني أحس أن بعضهم يعتبرني، كعربي أو مسلم، مشكلة. لقد أثار الكتاب بعد صدوره وتحديداً عام 2010 جدلاً، حينما قرّرت جامعات أميركية عدة إدراجه ضمن المقرر الدراسي للطلاب الجدد. وكنت محظوظاً باختيار كتابي لطلاب السنة الأولى في أكثر من عشرين جامعة وكلية، ومن بينها الجامعة التي أدرّس فيها؛ "سيتي يونفيرستي" وتحديدًا في "بروكلين كوليج" في نيويورك. لكن "الطريف" في الأمر، أن الاعتراض على إدراج الكتاب ضمن القراءات الإلزامية، جاء من قبل تيار يميني محافظ داخل الجامعة. كما هدد أحدهم بسحب تبرعات، ادّعى أنه كان ينوي تقديمها للجامعة. إضافة طبعًا لرسائل الكراهية على بريدي الإلكتروني. لكن لا بدّ من وضع الأمر في سياقه العام؛ ففي تلك الفترة شهدت الولايات المتحدة جدلاً هستيرياً حول فتح مسجد ومركز إسلامي في المنطقة القريبة من مركز التجارة العالمي الذي شهد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وانتقل أمر إدراج الكتاب إلى الإعلام، فادّعى بعضهم أن جامعة "سيتي يونفيرستي" تدرّس الطلاب مواد معادية للولايات المتحدة، وهو أمر غير صحيح بالطبع. أصرّت الجامعة في النهاية على قرارها وتمّ تدريس الكتاب. إلا أنه وبسبب الجدل والتهديدات، قرّرت الشرطة وضع حماية لي. كان أمرًا غريباً جداً أن اضطر كأستاذ جامعي، لتدريس الكتاب تحت حماية الشرطة.
* تصف في الكتاب حيوات سبعة شباب وما مرّوا به بعد أحداث سبتمبر/أيلول كعرب ومسلمين. متى قررت البدء بتناول هذا الموضوع، ولماذا ركّزت على الشباب؟
بدأت عام 2005 التفكير بالأمر، فقد كنت أبحث عن مصدر يصف تأثير أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة. لم أجد كتابًا أو بحثًا يتناول الأمر من وجهة نظر العرب المسلمين أنفسهم. صحيح أنني وجدت بعض المقالات، إلا أنها لم تكن كافية. فتولّدت لدي رغبة في العمل على مشروع يؤرّخ ويوثق ما جرى من شيطنة للجالية العربية والمسلمة على يد قوّات الأمن الأميركية، ومن قبل الرأي العام كذلك. ولذلك جاء الكتاب بصيغته، التي حاولت من خلالها، كشف حيوات الناس وقصصهم.
اقرأ أيضًا: جنزير، الفنان همزة وصل بين عمله وناظره
* كيف استطعت الوصول إلى هؤلاء الشباب؟ وأي قصص بدت لك الأبرز؟
بدأت بسؤال أصدقائي ومعارفي، وبدورهم سألوا أصدقائهم. وترددت على الجوامع والجمعيات الأهلية أيضًا. في البداية، كانت لدي مخاوف كثيرة، فأنا لا أسكن في المناطق التي تسكنها غالبية العرب والمسلمين في نيويورك، فضلًا عن خلفيتي الأكاديمية. خشيت أن تشكّل هذه الأمور حاجزًا، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار جو الخوف السائد وقتها، ما يعني أنهم ربما لن يثقوا بي، بسبب وجود المخبرين وعمليات التجسس التي كانت الحكومة تقوم بها. لكي أكسب ثقتهم، أخذت نسخاً من مقالات كتبتها، واخترت تلك التي تظهر أنني عملت مع إدوارد سعيد. المفاجأة، أنهم كانوا أقل تخوفًا وقلقًا مني، وكانوا مرتاحين.
* أي القصص استوقفتك أكثر من غيرها؟
في الواقع، كانت جميع القصص مثيرة. ولكن قصة الفتاة السورية رشا وعائلتها جذبت اهتمامي حقًا، فقد تمّ احتجازهم لثلاثة أشهر من دون أي ذنب اقترفوه. استيقظت رشا من النوم، لتجد امرأة من الأمن في غرفتها. وعندما ذهبت إلى غرفة المعيشة، وجدت باقي أفراد الأسرة، محاطين بقوات الأمن التي اقتادتهم للتحقيق واحتجزتهم لثلاثة أشهر، وذلك في إطار ما يسمى بـ "الحرب على الإرهاب"، كان ذلك بعد مرور ستة أشهر على أحداث سبتمبر/ أيلول. كانت رشا في الثامنة عشرة من عمرها حين احتجزت هي وعائلتها مع مجرمين جنائيين. وفي ما يخصّ وضعها وعائلتها في أميركا، فقد كانوا يعيشون هنا منذ حوالي خمسة عشر عامًا، قدموا خلالها طلبًا للجوء. ولكنهم لم يحصلوا على الموافقة لأسباب عدة، من بينها خروجهم لفترة من الأراضي الأميركية.
اقرأ أيضًا: أبو يعرب المرزوقي، الدين والفلسفة يسعيان للغاية ذاتها
لاحظت أثناء إعدادي الكتاب، وجود كثير من العرب والمسلمين في السجن للأسباب ذاتها؛ أصولهم العربية أو المسلمة التي جعلتهم موضع شك، لناحية العلاقة مع الإرهاب، أي فقط بسبب انتمائهم الديني أو القومي.
* كتابك الأخير "حياة المسلمين الأميركيين؛ برقيات من الحرب على الإرهاب"، أدنى إلى مصدر تحليلي لوضعهم لكن ضمن السياق الأميركي المحلي. هل لك أن تستفيض؟
أرى أن الكتابين يكملان بعضهما. ورغم وجود قصص شخصية في الكتاب الأخير، إلا أنه تحليلي وتاريخي. ولو أخذنا القول الإنجليزي "الزمن يداوي كل الجراح" في محاولة لتطبيقه على العلاقة بين العرب والمسلمين الأميركيين من جهة، والمجتمع والمؤسسات الأميركية من جهة أخرى، لوجدنا أنه فشل فشلاً ذريعاً. إذ إنه بعد مرور كل هذا الوقت، غدت العلاقة أكثر توترًا، وأصبحت معاداة العرب والمسلمين أقوى في الولايات المتحدة والعالم عامة، ولا أدري متى ستخف. لذلك، من الضروري البحث في هذا الأمر، ومحاولة فهم ما يجري على المستوى المحلي في الولايات المتحدة ودول عديدة. وعلينا أن نرى ذلك في سياق التاريخ المحلي لكل دولة. من المهم أن ننظر لما يحدث بخصوص الإسلام والمسلمين العرب، ضمن سياقه الأميركي المحلي، وعبر عدسة التاريخ الأميركي. كي نستطيع فهم معاداة العرب والمسلمين المتصاعدة، في سياق فهمنا لتكوين الولايات المتحدة. فما يعيشه العرب والمسلمون، عاشته جماعات أخرى بطرق مختلفة. وفي ظنّي، فإن كل دولة في العالم، ستستفيد إن قامت بتحليل من هذا النوع. فلو نظرنا إلى حياة المسلمين في فرنسا أو إنجلترا، فإننا نجد أن السياق يختلف.
لذا علينا النظر في السياق المحلي للدولة التي نتحدث عنها وإلى تاريخها أيضًا.
* ضمن هذا السياق، أتجد أن ثمة إمكانيات للعرب والمسلمين، بتأدية دور فعّال في المجالات السياسية المختلفة في الولايات المتحدة؟
الأمر معقد. لكن أعتقد بصورة عامة أن المجالات المفتوحة على مستوى السياسة الحكومية، محدودة بالنسبة للعرب والمسلمين الأميركيين. بل إننا نلاحظ في المجال السياسي، أن الكثير من المرشحين الجمهوريين يتبارون في ما بينهم ويتنافسون في من سيقوم بمهاجمة العرب والمسلمين أكثر. حتى الرئيس أوباما ابتعد عن الخطاب الذي قدّمه عام 2004، أمام اجتماع حزبه كسناتور، ودعا فيه آنذاك إلى ضرورة العمل ومراعاة الحقوق المدنية للعرب والمسلمين. هذه الأمور تجعلني أقلّ تفاؤلاً في ما يتعلق بالسياسة وبالحيز الذي يمكن أن يؤدّي فيه العرب والمسلمون في الولايات المتحدة دوراً فعّالاً.
* أيعني هذا أنه يمكننا التحدّث عن تجربة خاصّة ومختلفة بالعرب والمسلمين في الولايات المتحدة، مقارنة بجاليات أخرى؟
من المثير أنه عندما تحدثت مع كثير من الشباب العرب والمسلمين الأميركيين، كانوا يرون وضعهم كجزء من وضع تاريخي تمرّ به الجاليات المختلفة في الولايات المتحدة، أي أن الظلم الواقع عليهم الآن، هو جزء من ظلم وقع على غيرهم من جاليات في الماضي: كالإيطاليين واليابانيين وغيرهم من المهاجرين. وأعتقد أن هذا أمر جيد، فهم ينظرون إلى أنفسهم كجزء من النسيج الاجتماعي، وينظرون إلى وضعهم، لا كأمر استثنائي، بل كأمر قابل للتغيير كما حصل مع غيرهم.
اقرأ أيضًا: رضوان السيد، نعيش مرحلة تفكك الإسلام السني
لكن لا يمكننا تناول هذا الموضوع، من دون النظر إلى جوانب أخرى: فالولايات المتحدة تنظر إلى نفسها بصورة مختلفة اليوم، أي ما بعد سن قوانين الحقوق المدنية. وهذا صحيح إلى حد ما، إذ تغيّر الوضع بصورة ما. إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة قبل حركة الحقوق المدنية، فإنها كانت دولة تمييز عنصري واستعمار بمعانيه المختلفة. اليوم الوضع مختلف على الصعيد الداخلي، على الأقل من الناحية النظرية. والإيمان بهذا الأمر، يعني تصديق عدم وجود تمييز ضدّ مجموعة معينة بحدّ ذاتها ؛ إثنية، دينية، وغيرها، كما حدث في الماضي ضدّ الأميركيين من أصول أفريقية مثلاً. لكن المشكلة أننا فعلًا أمام هذا المشهد بالضبط؛ هناك مجموعات بعينها تواجه تمييزاً ضدّها لانتمائها القومي أو الديني. وهناك أمر آخر، ففي الماضي كان التمييز والعنصرية يقعان في سياقات ذات علاقة بأمور داخلية، بينما لا يمكننا اليوم الحديث عما يجري من تمييز مؤسساتي - من قبل أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية - ضدّ العرب والمسلمين من دون الحديث عن السياسة الخارجية الأميركية، ولذلك يجب ربط الإثنين معاً. الأمر الذي لم يحدث في الماضي إلا في حالات استثنائية، كما حدث مع الجالية اليابانية في الحرب العالمية الثانية.
* لو ننتقل للحديث عن مسارك الدراسي، حيث بدأت من مجال وانتقلت إلى آخر، فقد اخترت الأدب ولديك علاقة مع المفكّر الراحل إدوارد سعيد.
لقد درست الهندسة المعمارية بداية، ولم أجرؤ على دراسة العلوم الإنسانية، لأن أهلي كانوا قد درسوا العلوم البحتة، ولكِ أن تتخيلي نظرتهم إلى العلوم الإنسانية، باعتبارها لا تطعم خبزاً وغير مفيدة. في إحدى مقررّات الهندسة، درسنا عن "ما بعد الحداثة"، وكان هناك مقال لإدوارد سعيد حول الموضوع. بالطبع كنت قد سمعت باسمه، إلا أنني لم أكن قد قرأت له. لكن من وقتها بدأت أهتم بكتاباته، وبعد إنهاء البكالوريوس، قدّمت للدراسة في جامعة كولومبيا في نيويورك، حيث كان يدرّس إدوارد سعيد، لأنني كنت معنياً بالدراسة معه، وقُبلت، وقدّمت أطروحة الدكتوراه تحت إشرافه.
* كيف كانت تجربة الدراسة معه؟
حين قدمت إلى جامعة كولومبيا، كان إدوارد سعيد أيقونة، ولم يكن من السهل على الطلاب لفت انتباهه، خاصة أن كثيرين كانوا يريدون الدراسة معه. اكتشفت في تلك الفترة أنه مريض بالسرطان، الأمر الذي جعل لفت انتباهه، ناهيك عن إمكانية العمل معه، أمرًا أصعب من ذي قبل، حيث بدأ يتوقف عن قبول الطلاب، لكنني كنت من المحظوظين.
ركّزت بحثي حول "هجرة الإسلام"، وتناولت موضوع التحولات التي طرأت على الإسلام عند الهجرة من الشرق إلى الغرب. وتطرّقت إلى الجدل الذي دار حول سلمان رشدي، وكذلك حول تأسيس الجامع الكبير في باريس. وركّزت في القسم الثاني على المسلمين الأميركيين من أصول أفريقية، الذين استعبدوا وأجبروا على القدوم إلى الولايات المتحدة. وبحثت في دلائل ذلك، منها وجود كتابات قرآنية قبل مئات السنين. لم يصدق الـ "أسياد" أن هؤلاء "العبيد" يستطيعون القراءة والكتابة، ولو بلغة أخرى، هي اللغة العربية.
ومن هنا، أستطيع القول بوجود تاريخ ثقافي متنوع للإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة، وعلى مستويات مختلفة. أحبّ إدوارد سعيد الموضوع كثيرًا. وفي الصيف كان قد ذهب إلى غزة وعندما عاد التقيته مصادفة في أروقة الجامعة، وقال لي "مصطفى أخبرت الجميع في غزة عن عملك". هي أمور صغيرة، ولكنها مهمة، ورمزيتها في إنسانيتها. ليس من السهل بصورة عامّة العمل مع الأكاديميين "النجوم" وقد عملت مع بعضهم، إلا أن إدوارد سعيد كان كريماً جدًا، ومعنياً بما يقرأ وببحوث طلابه.
* لقد قمت بتحرير كتاب مع الباحث أندريو روبينز، عبارة عن مختارات لفصول من كتب إدوارد سعيد، كيف ولدت الفكرة وما الهدف من ذلك؟
فكرة الكتاب كانت بالأصل لأندريو روبينز الذي عمل لسنوات باحثًا مساعدًا لإدوارد سعيد. وكان قد تحدث معه في حينه عن رغبته بإعداد كتاب من هذا النوع، ورحب سعيد بالفكرة ولم يتدخل بحيثياتها. طلب مني روبينز أن ننفذ العمل معًا. ما قمنا به، هو كتابة مقالات قصيرة في بداية كل فصل اخترناه من أعمال سعيد، في محاولة لإيجاد التوازن، وإبراز أصوات تصف طبقات عمل سعيد وتنوعها. كما تعلمين فقد كانت كتاباته الأولى في الأدب والنظريات الأدبية ولاحقاً الموسيقى، إضافة طبعا للنقد الثقافي والاستشراق. الكتاب يحاول أن يُظهر تعقيدات كتاباته وعلاقتها ببعضها. فحتى لو بدت للوهلة الأولى بعيدة ومن مجالات مختلفة، إلا أنها مرتبطة ببعضها.
* تكتب في عدة صحف ومجلات أميركية وغربية بارزة بما فيها "ذا غارديان" البريطانية. تتناول مواضيع عدة مختلفة في الثقافة والسياسة. من أبرز تلك المقالات، ما كتبته قبل سنوات عن الموسيقى كأداة للتعذيب. ألك أن تحدثنا عنه؟
أتابع الأخبار بشكل يومي ومن أكثر من مصدر. بعد احتلال العراق عام 2003، كنت أتابع ما يحدث هناك، ولاحظت أن بعض المقالات الصحافية تذكر بشكل سريع موضوع موسيقى يتمّ إسماعها للمحتجزين العراقيين. ثم تمّ الكشف عن فضيحة سجن أبو غريب وملفات سرية عديدة. تابعت الموضع بشكل مكثف، لأكتشف أن الولايات المتحدة تستخدم الموسيقى كسلاح تعذيب. هو سلاح بغيض، وكان يمكنهم استخدامه بسهولة فائقة، فقد كانوا يجهزون حافلات صغيرة معزولة صوتياً، يضعون المحتجزين بها، ثم يشغلون موسيقى بصوت عال. قرأتُ شهادات عن الموضوع. وتبين كذلك أن هذا الأسلوب كان مستخدماً أيضًا في معتقل غوانتانامو. وقلت إن استخدام هذا في أكثر من مكان، يعني وجود سياسة منهجية وراءه. وتبين بعد البحث أن هذه طرق تعذيب استخدمت في الماضي من قبل البريطانيين ضدّ الإيرلنديين.
لكن البريطانيين كانوا يستخدمون أصوات بدلًا من الموسيقى. في نهاية المطاف، فإن النتيجة واحدة. وهي أداة تعذيب حرّمتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. لذا قررت الكتابة عن الأمر، وأثار في حينه جدلًا واسعًا، لأنه كان واحداً من أولى المقالات التي أسهبت في الأمر وسبرته. وفي النهاية، طالبت، عبر نداء، الموسيقيين بعدم السماح بأن تكون موسيقاهم أداة للتعذيب، وقد لبّى عدد منهم النداء.