08 يوليو 2019
مغارة علي بابا
سألتني مجلة أجنبية عن مدينتي الأولى وأمكنتها الحميمة. فقلت إنها، بالطبع، عمّان. على الرغم من أنها ليست مدينتي بمعنى الولادة والتنشئة. فلم آتها إلا عابراً إلى مدنٍ ستتكشف لي أسماؤها ومعالمها من دون توقف. وبين جبالها التي تطلّ على مجرى السيل، وسقفه، والوسط القديم، يتمكّن جبل اللويبدة من تحريك حنينٍ، ترسب في أعماقٍ لم تعد تطاولها مغارفه الطويلة. إنه المكان الذي مشيت في شوارعه الضيقة مع أصدقائي. وهو المكان الذي شهد أول علاقة حبٍّ مع فتاةٍ من المدينة، لكنها لم تتطور كثيراً، ولمّا انتهت لم تترك جراحاً. وهذا نوعٌ من الحب جيد، بل ممتاز. لجبل اللويبدة شخصيةٌ مختلفةٌ عن باقي جبال عمان الأخرى. إنه في الجهة الغربية من المدينة، ولكنه ليس جبل البورجوازية، بل للطبقة الوسطى. وأعطاه مقر رابطة الكتاب الأردنيين طابعاً ثقافياً تزايد مع الوقت، حتى يمكن وصفه بـ"جبل الثقافة"، إن كان لهذا الوصف معنى.
مثل الأمكنة القديمة في عمّان، يعكس جبل اللويبدة النمط المعماري الذي عرفه الأردن الحديث، عندما أقيمت فيه إمارة شرق الأردن عام 1921. كان معظم المعماريين الذين صمموا البيوت والمؤسسات الأولى في الكيان السياسي الوليد من الذين عاشوا في العهد العثماني، وتأثروا بالنمط العثماني في العمارة. وهذا واضحٌ في بيوت جبل عمّان واللويبدة، المكانين المفضلين للنخبة السياسية والاقتصادية الأولى للبلاد. لم يغيّر التحديث الذي طرأ على حياة العاصمة الأردنية عموماً على شخصية جبل اللويبدة. بوعيٍ، أو بمحض المصادفة، صمد هذا الجبل أمام التحديث العشوائي الذي طاول معظم أنحاء العاصمة.
قلت إن اللويبدة هو "جبل الثقافة" (لست مرتاحاً لهذا الوصف، لذلك أرجو تقبَّله على مضض). ليس هناك، في ظني، مكانٌ أيقونيٌّ على مستوى الثقافة في عمّان. لكن، يمكن اعتبار جبل اللويبدة كذلك. وممكن، أيضاً، اعتبار، مكتبات وسط البلد التي لا تزال موجودة على النحو الذي عرفتها فيه قبل نحو 40 سنة. أحب وسط البلد. هو أكثر مكانٍ عرفته ومشيت فيه في عمّان. أحب مقاهيه، مطاعمه، أسواقه الضيقة، صالاته السينمائية، محال الحلويات، وأرصفته التي تفترشها بسطات بضائع وسجائر وكتب ومجلات لا يربط بينها رابط.
تغييرات قليلة طرأت على مكتبات وسط البلد، فهي لا تزال في أماكنها في شارع، أو شارعين رئيسيين، في قلب المدينة القديمة. كلما أكون في عمّان أذهب إلى هذه المكتبات، وأجد فيها من الكتب ما لا أجده في المكتبات الحديثة. في واحدةٍ من هذه المكتبات الكبيرة، وجدت صاحبها الذي كنت أراه عندما كنت أتردّد إليها لشراء كتاب، أو لمجرد الاطلاع على ما وصل حديثاً من كتب وقرطاسية. حدّق بي الرجل الذي أصبح عجوزاً كأنه يحاول أن يتذكّر أين رأى وجهي.
لهذه المكتبات رائحة الكتب والورق القديم ودخان السجائر. غريبة رائحة الورق المطبوع، كأن لكل كتابٍ رائحة خاصة به. يمكن أن تجد في هذه المكتبات كتباً لم تطبع ثانية. طبعات عمرها أربعون، خمسون سنة. تبدو على الرفوف كأنها لم تتحرّك من هناك. أفكّر ماذا يعني ذلك؟ هل هذه عراقة أم ضعف قراءة وحركة بيع للكتاب؟ وكيف استمرت هذه المكتبات كل هذي السنين، ولا يزال على رفوفها كتب صدرت من أربعين سنة؟ يبدو لي أن أصحاب هذه المكتبات قد هرموا وهم يجلسون وراء طاولاتهم ذات الخشب الثقيل، يشربون الشاي، أو القهوة، ويدخنون بهدوء، وبدون أن يبدو عليهم ضجرٌ من حالتهم هذه. لا تفشل هذه المكتبات في استعادة صور لشاب صغير، كان قادماً لتوه إلى المدينة التي بدت له كبيرةً وصادمةً، وكانت الكتب تفتح له أبواب مغارة علي بابا، ويحلم أن تضم هذه الرفوف كتاباً له، ذات يوم.
مثل الأمكنة القديمة في عمّان، يعكس جبل اللويبدة النمط المعماري الذي عرفه الأردن الحديث، عندما أقيمت فيه إمارة شرق الأردن عام 1921. كان معظم المعماريين الذين صمموا البيوت والمؤسسات الأولى في الكيان السياسي الوليد من الذين عاشوا في العهد العثماني، وتأثروا بالنمط العثماني في العمارة. وهذا واضحٌ في بيوت جبل عمّان واللويبدة، المكانين المفضلين للنخبة السياسية والاقتصادية الأولى للبلاد. لم يغيّر التحديث الذي طرأ على حياة العاصمة الأردنية عموماً على شخصية جبل اللويبدة. بوعيٍ، أو بمحض المصادفة، صمد هذا الجبل أمام التحديث العشوائي الذي طاول معظم أنحاء العاصمة.
قلت إن اللويبدة هو "جبل الثقافة" (لست مرتاحاً لهذا الوصف، لذلك أرجو تقبَّله على مضض). ليس هناك، في ظني، مكانٌ أيقونيٌّ على مستوى الثقافة في عمّان. لكن، يمكن اعتبار جبل اللويبدة كذلك. وممكن، أيضاً، اعتبار، مكتبات وسط البلد التي لا تزال موجودة على النحو الذي عرفتها فيه قبل نحو 40 سنة. أحب وسط البلد. هو أكثر مكانٍ عرفته ومشيت فيه في عمّان. أحب مقاهيه، مطاعمه، أسواقه الضيقة، صالاته السينمائية، محال الحلويات، وأرصفته التي تفترشها بسطات بضائع وسجائر وكتب ومجلات لا يربط بينها رابط.
تغييرات قليلة طرأت على مكتبات وسط البلد، فهي لا تزال في أماكنها في شارع، أو شارعين رئيسيين، في قلب المدينة القديمة. كلما أكون في عمّان أذهب إلى هذه المكتبات، وأجد فيها من الكتب ما لا أجده في المكتبات الحديثة. في واحدةٍ من هذه المكتبات الكبيرة، وجدت صاحبها الذي كنت أراه عندما كنت أتردّد إليها لشراء كتاب، أو لمجرد الاطلاع على ما وصل حديثاً من كتب وقرطاسية. حدّق بي الرجل الذي أصبح عجوزاً كأنه يحاول أن يتذكّر أين رأى وجهي.
لهذه المكتبات رائحة الكتب والورق القديم ودخان السجائر. غريبة رائحة الورق المطبوع، كأن لكل كتابٍ رائحة خاصة به. يمكن أن تجد في هذه المكتبات كتباً لم تطبع ثانية. طبعات عمرها أربعون، خمسون سنة. تبدو على الرفوف كأنها لم تتحرّك من هناك. أفكّر ماذا يعني ذلك؟ هل هذه عراقة أم ضعف قراءة وحركة بيع للكتاب؟ وكيف استمرت هذه المكتبات كل هذي السنين، ولا يزال على رفوفها كتب صدرت من أربعين سنة؟ يبدو لي أن أصحاب هذه المكتبات قد هرموا وهم يجلسون وراء طاولاتهم ذات الخشب الثقيل، يشربون الشاي، أو القهوة، ويدخنون بهدوء، وبدون أن يبدو عليهم ضجرٌ من حالتهم هذه. لا تفشل هذه المكتبات في استعادة صور لشاب صغير، كان قادماً لتوه إلى المدينة التي بدت له كبيرةً وصادمةً، وكانت الكتب تفتح له أبواب مغارة علي بابا، ويحلم أن تضم هذه الرفوف كتاباً له، ذات يوم.