مفارقة آيا صوفيا
انتهى الأمر. تحول متحف آيا صوفيا إلى مسجد، بقرارٍ أصدره من يملك القوة والسلطة وأدوات التغيير. "كارت" آيا صوفيا واحد من آلاف، يحملها، ويدّخرها، سياسي فذ، وداهية، ويصل إلى ما يريد، وهو، ربما، أقوى سياسي شرق أوسطي رآه جيلنا وأكثرهم نجاحًا وإنجازا، وإثارة للجدل. الأتراك راضون، والأمر يخصّهم في الأخير، لكن نقاشاتنا في العالم العربي تبقى شاهدةً على ملامح دولتنا القادمة، إذا كانت هناك دولة قادمة، ومبرّرة لاستمرار الدولة القائمة، إذا كانت هناك دولة قائمة!
أطلق الأتراك من التصريحات ما يحتفظ للقرار بأبعاده السياسية، إلا أن أغلب مؤيدي القرار، في بلادنا، أو بالأحرى مؤيدي صاحبه، أيا كان قرارُه، رأوا استبعاد السياسة، واعتبارها جريمة، تنم عن ضعف عقيدة صاحبها، وانحيازه للباطل من دون الحق. وافترضوا، من عندهم، أن تخطئة القرار تعني بالضرورة الموافقة على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ومباركة جرائم تحويل المساجد إلى كنائس ومواخير في إسبانيا، منذ خمسة قرون، بالإضافة إلى حقد صاحب التخطئة، الدفين، وكراهيته كل ما هو إسلامي!
لم تتوقف الاتهامات عند حساباتٍ شعبوية، أو متحمسين، لا تصح مؤاخذتهم، بل تجاوزت هؤلاء إلى شخصياتٍ دينية مرموقة، علماء وشيوخ، حتى اضطر متخصّصون في الشأن التركي، ومؤرخون، وأساتذة علوم سياسية، أغلبهم إسلاميون، للمفارقة، إلى تصدير كتاباتهم حول الموضوع بأنهم مسلمون، والله العظيم، ولا تنقصهم العاطفة الدينية، والمصحف الشريف، ولا يدعمون ترامب، وربّ الكعبة، كما أنهم لم يكونوا في إسبانيا وقت تحويل المساجد مواخير، كل ما هنالك أنهم يحترمون أنفسهم وقرّاءهم، ويكتبون ما يرونه.
لسنا بحاجة إلى التذكير بأن استبعاد السياسة وتجريمها، وتديين قرارات سياسية، أو جعلها المعبر الوحيد عن مفهوم الوطن، ومن خالفها ليس وطنيًا، هو خطاب الأنظمة الاستبدادية، لكننا بحاجة للتذكير بما هو أكثر بداهةً، وهو موقف الإسلام، وتجربة المسلمين، على امتداد تاريخهم، مع غير المسلمين، موقفهم من الكنائس والمعابد، بل وأيضا الآثار القديمة التي يحمل بعضها بقايا تاريخ وثني، في البلاد المفتوحة، فقد حافظ المسلمون على هذا كله، بموجب نصوصهم، ورؤيتهم، بل وحافظوا على الأفكار والفلسفات، وترجموها وشرحوها ونقلوها، بأمانة، ومن دون تشويه. واعتبرت الاعتداءات الاستثنائية على مقدّسات الغير خروقاتٍ وتجاوزات منافية للأصل، وشهد بذلك مؤرخون غربيون، أبرزهم أرنولد توينبي الذي قال، في عبارة واضحة، إن التاريخ لم يشهد فاتحًا أرحم من المسلمين، فضلا عن شهادته لنبي الإسلام، وتعاليمه.
حاول مستشرقون متعصّبون تشويه صورة الفاتح المسلم ولم يفلحوا. حاول لادينيون عرب، وعلمانيون متطرّفون أن يفعلوا ولم تسعفهم المصادر. الآن يحاول الإسلاميون، أنفسهم، الالتفاف حول هذا التراث، وجعل "الأصل" استثناءً، والاستثناء أصلا، تبريرا للاعتداء على جزء من تاريخ آيا صوفيا، المسيحي، وتأييدا لصاحب القرار، في المطلق، بحجج ساذجة، مثل المشاعر الدينية التي تفرح بإقامة مسجد، في بلدٍ مساجده أكثر من سكانه، أو عقود بيع وهمية بين منتصر ومهزوم، أو اتخاذ جرائم الآخرين في العهود الغابرة مبرّرًا لجرائم مقابلة. والمؤسف أن هذه المحاولات لم تتوقف عند الدعاة والوعاظ ومريديهم من المتحمسين، بل تجاوزتهم إلى نخب ومثقفين منحازين، في موقفهم الظاهر، لثورات الشعوب العربية، وقيم الحرية والديمقراطية والمواطنة، وكان أوْلى بهم ترشيد هذا الخطاب الهستيري، وتوجيهه بشكل صحيح، ليس بالضرورة إلى معارضة القرار، إنما لقراءته بشكل أهدأ، وتقديم خطاباتٍ أكثر تماسكا.
تكشف "خناقة آيا صوفيا" عن مدى سيولة المجال العام في بلادنا، إسلاميون ضد إسلامهم وتاريخهم وتراثهم، من أجل مصالح القبيلة، أو نكايةً في مزاج القبيلة الأخرى، وعلمانيون يدافعون بدورهم عن تراث مسيحي ربما لم يشغل أغلبهم يوما، وما كانوا ليدافعوا عنه، لولا أن صاحب القرار والمستفيدين منه والمبرّرين له من القبيلة الأخرى، وولاءات وبراءات في خلافات دنيوية، ولا مرجعية، أو بوصلة، أو مقصد، أو ثابت واحد، يمكن الاحتكام إليه، فكل شيءٍ قابل للتغيير والتبديل والتسييل من أجل الانتصار للتيار والحركة والشلة. وهنيئا لطغاتنا.