19 أكتوبر 2019
منظومة الدفاع الفرنسي على المحكّ
في وقت تُكثر فيه الحكومة الاشتراكية الفرنسية الحالية من التدخلات العسكرية (تدخلت في مالي وفي أفريقيا الوسطى، لوّحت به في سورية وتلوّح به في نيجيريا والنيجر)، تُخفض من الإنفاق العسكري، ما يضع قدرات فرنسا العسكرية على المحك.
أثارت رسالة وزير الدفاع الفرنسي، جون-إيف لودريان، في 7 مايو/ أيار الماضي، إلى رئيس الحكومة، مانويل فالس، جدلاً في فرنسا بشأن الميزانية العسكرية، يُحذر فيها الوزير من اقتطاعات جديدة في ميزانية الدفاع، ما يضع قدرات فرنسا العسكرية، والتزاماتها الخارجية، في خطر، مطالباً بنصف مليار يورو مبلغاً إضافياً استثنائياً لسنة 2014 (نص عليه قانون البرمجة العسكرية). وبهذا، يحاول، أيضاً، استباق تنفيذ نيات الحكومة، حتى لا يكون التفاوض على الميزانية الأصلية، وإنما على الغلاف المالي الإضافي.
على الرغم من وعدها بعدم المساس بميزانية الدفاع، المخفضة أصلاً (بنحو 5 مليارات يورو مقارنة بالميزانية السابقة)، والتي تم إقرارها بموجب قانون البرمجة العسكرية (190 مليار يورو للسنوات الست المقبلة، أي بمعدل 31،6 مليار يورو سنوياً)، والذي يحدد الإنفاق العسكري للفترة 2014 ـ 2019 (الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2013)، إلا أن الحكومة يبدو أنها تتجه نحو تخفيضها، غير مكترثة بتحذيرات قيادات سياسية وعسكرية من تدني قدرات فرنسا، وتراجع مكانتها الدولية.
بإقرارها سياسة تقشّف، مرتفعة الكلفة اجتماعياً واقتصادياً (نظراً للحلقة المفرغة التي تحدثها: التقشّف يحدّ من الاستهلاك والاستثمار، ما يزيد من تعطيل النمو الذي يؤدي إلى مزيد من التقشف، وهكذا)، تسعى الحكومة، في زمن البقرات العجاف، إلى الحد من عجز ميزانية الدولة، مستهدفة ميزانيات بعض الوزارات، لعلّها تجد ضالتها: 50 مليار يورو تبحث عنها بشقّ النفس في إطار خطة التقشف المعلن عنها أخيراً. لكن استهداف ميزانية الجيش أثار حفيظة العسكريين، حيث أعلن قادة الجيوش الفرنسية (البري والجوي والبحري) وقائد الأركان، أنهم سيستقيلون إن اقتطعت الحكومة مجدداً من ميزانية الدفاع. طبعاً، قليلة هي قوانين البرمجة العسكرية التي احترمت توازناتها المالية، لكن، هذه المرة بلغ السيل الزبى، فقطاع الدفاع لا يمثل إلا 10% من عمالة القطاع العام (الوظيفة العمومية) لكنه يتحمل وحده 80% من برامج إلغاء مناصب الشغل فيه.
وإذا كان العسكريون يعتبرون أن مبلغ 31.6 مليار يورو الحد الأدنى لضمان قدرات دفاعية كافية، فإن الحكومة تسعى، على ما يبدو، إلى تخفيضه إلى 29 مليار يورو سنوياً، وهو رقم دافعت عنه خلال مناقشة قانون البرمجة العسكرية، قبل أن تتراجع. وللتذكير، شرعت فرنسا، قبل الأزمة الاقتصادية بسنوات، في خطة تقليص حجم آليتها الدفاعية بتخفيض العمالة. فقد تبنّت حكومة ساركوزي السابقة خطة لإلغاء 50 ألف منصب (على مدار سنوات). أما حكومة فرانسوا هولاند الحالية، فأقرت خطة تقضي بإلغاء 23500 منصب، وما ينجم عن ذلك من إغلاق ثكنات في مختلف أنحاء فرنسا، وهذا ما يثير حفيظة المسؤولين المحليين، لأن رحيل الجند يزيد من أزمة الشغل في مدنهم وبلداتهم.
نفى رئيس الحكومة أي مساس بقانون البرمجة العسكرية، إلا أن هذا لم يطمئن العسكريين وأرباب الصناعات العسكرية الفرنسية (الجيش الفرنسي زبونها الأول). وإذا كان القادة العسكريون هددوا بالاستقالة، فإن رؤساء كبريات شركات الصناعة العسكرية (مجموعة أيرباص، داسو للطيران العسكري، طاليس...) بعثوا رسالة إلى الرئيس هولاند، يحذرونه فيها من عواقب وخيمة (تسريح العمال، تقهقر التكنولوجيا، تآكل السيادة الوطنية...) للاقتطاع الإضافي المحتمل من ميزانية الدفاع.
والواضح أن الحكومة الفرنسية متذبذبة في مواقفها. ففي وقت نفى فيه رئيسها أي اقتطاع في ميزانية الدفاع، أكدت مصالح رئاسة الجمهورية أن هولاند سيفصل في الأمر في الأسابيع القليلة المقبلة، وهذا يعني أن المسألة واردة، وإن كانت غير مرجحة بالضرورة. وهذا ربما ما يفسر تصريح وزير الدفاع أن على رئيس الجمهورية أن يفي بوعده (الذي أكده ثلاث مرات) بعدم المساس بقانون البرمجة العسكرية. ويعبّر تصريحه عن عدم التوافق داخل الحكومة بشأن مكانة المنظومة الدفاعية. ويمكن القول إن هناك فريقين، فريق يقول بالتعامل مع ميزانية الدفاع، مثل ميزانيات الوزارات الأخرى، على أساس أن على الجميع المشاركة في تحمل عبء التقشف، وفريق يقول إن ميزانية الدفاع تم تخفيضها، وهي الآن في حدها الأدنى، وأي اقتطاع إضافي سينعكس سلباً على قدرات فرنسا الدفاعية وعلى إمكانات تدخلها في الخارج ومكانتها الدولية. وكلاهما ينتظر تحكيم ـ الكلمة الفصل ـ هولاند الذي هو أيضاً، بحكم الدستور، القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويتخوّف عسكريون ومختصون في الشؤون الدفاعية من خلل قد يحدثه الضغط المالي على الجهاز الدفاعي الفرنسي بمنح الأولوية، تدريباً وتجهيزاً وتسلحاً، للوحدات الموجهة للتدخل خارجياً.
هناك تناقض في سياسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة، فمن جهة، تطنب في الحديث عن مكانة فرنسا ومقامها بين الأمم، وتطالب ببناء أوروبا الدفاع (تطالب فرنسا دائماً ببناء قوة عسكرية أوروبية مقتدرة، حتى لا تبقى أوروبا رهينة الناتو والقوة الأميركية، مطالبة الدول الأوروبية برفع ميزانياتها الدفاعية لبناء أوروبا الدفاع)، وتُكثر من التدخلات العسكرية (أفغانستان، ساحل العاج، ليبيا، مالي، أفريقيا الوسطى...)، ومن جهة أخرى، تخفض ميزانية الدفاع باستمرار. وأي انخفاض جديد في الإنفاق العسكري سيحدّ من هامش مناورة فرنسا خارجياً، وسيزيد من الخلل في الموازين بين ضفتي الأطلسي، وبالتالي، داخل الناتو (تُعيب أميركا على حلفائها منذ نهاية الحرب الباردة تخاذلهم في رفع ميزانياتهم العسكرية). هل أصبحت سياسة فرنسا وطموحاتها أضخم من إمكاناتها؟
أثارت رسالة وزير الدفاع الفرنسي، جون-إيف لودريان، في 7 مايو/ أيار الماضي، إلى رئيس الحكومة، مانويل فالس، جدلاً في فرنسا بشأن الميزانية العسكرية، يُحذر فيها الوزير من اقتطاعات جديدة في ميزانية الدفاع، ما يضع قدرات فرنسا العسكرية، والتزاماتها الخارجية، في خطر، مطالباً بنصف مليار يورو مبلغاً إضافياً استثنائياً لسنة 2014 (نص عليه قانون البرمجة العسكرية). وبهذا، يحاول، أيضاً، استباق تنفيذ نيات الحكومة، حتى لا يكون التفاوض على الميزانية الأصلية، وإنما على الغلاف المالي الإضافي.
على الرغم من وعدها بعدم المساس بميزانية الدفاع، المخفضة أصلاً (بنحو 5 مليارات يورو مقارنة بالميزانية السابقة)، والتي تم إقرارها بموجب قانون البرمجة العسكرية (190 مليار يورو للسنوات الست المقبلة، أي بمعدل 31،6 مليار يورو سنوياً)، والذي يحدد الإنفاق العسكري للفترة 2014 ـ 2019 (الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2013)، إلا أن الحكومة يبدو أنها تتجه نحو تخفيضها، غير مكترثة بتحذيرات قيادات سياسية وعسكرية من تدني قدرات فرنسا، وتراجع مكانتها الدولية.
بإقرارها سياسة تقشّف، مرتفعة الكلفة اجتماعياً واقتصادياً (نظراً للحلقة المفرغة التي تحدثها: التقشّف يحدّ من الاستهلاك والاستثمار، ما يزيد من تعطيل النمو الذي يؤدي إلى مزيد من التقشف، وهكذا)، تسعى الحكومة، في زمن البقرات العجاف، إلى الحد من عجز ميزانية الدولة، مستهدفة ميزانيات بعض الوزارات، لعلّها تجد ضالتها: 50 مليار يورو تبحث عنها بشقّ النفس في إطار خطة التقشف المعلن عنها أخيراً. لكن استهداف ميزانية الجيش أثار حفيظة العسكريين، حيث أعلن قادة الجيوش الفرنسية (البري والجوي والبحري) وقائد الأركان، أنهم سيستقيلون إن اقتطعت الحكومة مجدداً من ميزانية الدفاع. طبعاً، قليلة هي قوانين البرمجة العسكرية التي احترمت توازناتها المالية، لكن، هذه المرة بلغ السيل الزبى، فقطاع الدفاع لا يمثل إلا 10% من عمالة القطاع العام (الوظيفة العمومية) لكنه يتحمل وحده 80% من برامج إلغاء مناصب الشغل فيه.
وإذا كان العسكريون يعتبرون أن مبلغ 31.6 مليار يورو الحد الأدنى لضمان قدرات دفاعية كافية، فإن الحكومة تسعى، على ما يبدو، إلى تخفيضه إلى 29 مليار يورو سنوياً، وهو رقم دافعت عنه خلال مناقشة قانون البرمجة العسكرية، قبل أن تتراجع. وللتذكير، شرعت فرنسا، قبل الأزمة الاقتصادية بسنوات، في خطة تقليص حجم آليتها الدفاعية بتخفيض العمالة. فقد تبنّت حكومة ساركوزي السابقة خطة لإلغاء 50 ألف منصب (على مدار سنوات). أما حكومة فرانسوا هولاند الحالية، فأقرت خطة تقضي بإلغاء 23500 منصب، وما ينجم عن ذلك من إغلاق ثكنات في مختلف أنحاء فرنسا، وهذا ما يثير حفيظة المسؤولين المحليين، لأن رحيل الجند يزيد من أزمة الشغل في مدنهم وبلداتهم.
نفى رئيس الحكومة أي مساس بقانون البرمجة العسكرية، إلا أن هذا لم يطمئن العسكريين وأرباب الصناعات العسكرية الفرنسية (الجيش الفرنسي زبونها الأول). وإذا كان القادة العسكريون هددوا بالاستقالة، فإن رؤساء كبريات شركات الصناعة العسكرية (مجموعة أيرباص، داسو للطيران العسكري، طاليس...) بعثوا رسالة إلى الرئيس هولاند، يحذرونه فيها من عواقب وخيمة (تسريح العمال، تقهقر التكنولوجيا، تآكل السيادة الوطنية...) للاقتطاع الإضافي المحتمل من ميزانية الدفاع.
والواضح أن الحكومة الفرنسية متذبذبة في مواقفها. ففي وقت نفى فيه رئيسها أي اقتطاع في ميزانية الدفاع، أكدت مصالح رئاسة الجمهورية أن هولاند سيفصل في الأمر في الأسابيع القليلة المقبلة، وهذا يعني أن المسألة واردة، وإن كانت غير مرجحة بالضرورة. وهذا ربما ما يفسر تصريح وزير الدفاع أن على رئيس الجمهورية أن يفي بوعده (الذي أكده ثلاث مرات) بعدم المساس بقانون البرمجة العسكرية. ويعبّر تصريحه عن عدم التوافق داخل الحكومة بشأن مكانة المنظومة الدفاعية. ويمكن القول إن هناك فريقين، فريق يقول بالتعامل مع ميزانية الدفاع، مثل ميزانيات الوزارات الأخرى، على أساس أن على الجميع المشاركة في تحمل عبء التقشف، وفريق يقول إن ميزانية الدفاع تم تخفيضها، وهي الآن في حدها الأدنى، وأي اقتطاع إضافي سينعكس سلباً على قدرات فرنسا الدفاعية وعلى إمكانات تدخلها في الخارج ومكانتها الدولية. وكلاهما ينتظر تحكيم ـ الكلمة الفصل ـ هولاند الذي هو أيضاً، بحكم الدستور، القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويتخوّف عسكريون ومختصون في الشؤون الدفاعية من خلل قد يحدثه الضغط المالي على الجهاز الدفاعي الفرنسي بمنح الأولوية، تدريباً وتجهيزاً وتسلحاً، للوحدات الموجهة للتدخل خارجياً.
هناك تناقض في سياسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة، فمن جهة، تطنب في الحديث عن مكانة فرنسا ومقامها بين الأمم، وتطالب ببناء أوروبا الدفاع (تطالب فرنسا دائماً ببناء قوة عسكرية أوروبية مقتدرة، حتى لا تبقى أوروبا رهينة الناتو والقوة الأميركية، مطالبة الدول الأوروبية برفع ميزانياتها الدفاعية لبناء أوروبا الدفاع)، وتُكثر من التدخلات العسكرية (أفغانستان، ساحل العاج، ليبيا، مالي، أفريقيا الوسطى...)، ومن جهة أخرى، تخفض ميزانية الدفاع باستمرار. وأي انخفاض جديد في الإنفاق العسكري سيحدّ من هامش مناورة فرنسا خارجياً، وسيزيد من الخلل في الموازين بين ضفتي الأطلسي، وبالتالي، داخل الناتو (تُعيب أميركا على حلفائها منذ نهاية الحرب الباردة تخاذلهم في رفع ميزانياتهم العسكرية). هل أصبحت سياسة فرنسا وطموحاتها أضخم من إمكاناتها؟