من الاستشراق إلى الاستغراب
يعيب كثيرون منّا نتاجاتٍ لكاتبين وباحثين، وناظرين في أحوالنا، إن كانوا من غيرنا، خصوصاً إن أَتوا من الغرب الذي استعمرنا مباشرة في الماضي القريب، أَو أَنه يستعمرنا في الحاضر "مواربةً"، كما يحلو لنا أَن ننعته، عبر الثقافة أو الاقتصاد أو التبعية العسكرية أَو الأمنية. ومن السهل غير الممتنع علينا أو الكثير منّا، أن نرتمي مرتاحين في التصنيفات القطعية، والتي لا تقبل شكّاً بعلامة استفهام، أو اشارة تعجّب. إن نعت إنتاج الآخر الذي يتناول شؤوننا باحثاّ ومحلّلاً بالاستشراق، يجد مرعاه الخصب في النقد المهم والمؤسس على حيّزٍ معيّن من شغل هذا الآخر على أَحوالنا، أسّس له وطوّره الراحل إدوارد سعيد. إن كلام الحق، أو الحق النسبي، أو الجزئي الذي أَفرد له سعيد كتابه الشهير، يُراد به باطلاً كلما استنجدنا به لسبب، ومن دون سبب. لا يكفي لنا أن نستشهد به، لنكون في أمانٍ مريح، يسمح لنا برمي كل ما أنتجه ويُنتجه عنّا الآخرون في بحر الملامات والانتقادات والاستعجال التقييمي الذي نبرع في خوض أمواجه، غير متحسبين من غرق ولا حتى بلل.
من المقبول نسبياً، أن يلجأ الضعفاء في المعارف والتكوين العلمي إلى رمي "الغريب" بنعوتٍ، تحرمه من الحق الطبيعي بالاهتمام بنا، إن هو رغب، ومهما كانت دوافعه. ولإخفاء النواقص أمام هذا الكمّ الهائل من الإنتاج الفكري والعلمي، يبدو من السهل والمُتاح، أَن نستعمل لغة التهكّم والانتقاص والرفض، مختبئين دائماً في أحضان العبارات الكبيرة، والصادمة، كالاستشراق، على الرغم من جهل معظمنا بمضمون كتاب سعيد الشهير. فاللغة العربية أَتاحت لنا استعمال عبارات كثيرة ذات المعنى بالمطلق، من دون أن يكون لها معنى في النص الذي "نُبدعه". وبالتالي، لن يحاسبنا أحد، كما يحلو لنا أن نعتقد، إن استعملنا مفهوم الاستشراق، في مكانه وفي غير مكانه.
في المقابل، يضعنا سعي العالمين منّا إلى اجترار هذا المفهوم في الشاردة والواردة، من دون حذرٍ علميٍ على الأقل، في موقفٍ لا نُحسد عليه، من حيث مساهمتنا في إفقار وعينا، ووعي من يقرأنا حول ما يجول ويصول في أحوالنا وفي أمصارنا وفي مصائرنا. ولا يخفي هذا الموقف جهلاً بنيوياً، بقدر ما يحمل جرعات من العقد المتوارثة، والتي لم تسهم المنظومات السياسية، ضعيفة أو معدومة الديمقراطية، في تجاوزها وتطوير عقلٍ نقديٍ موضوعي. كما أن عائق اللغة يُسهم بشكلٍ سلبي في قبولنا لمنتج الآخر، لأن اعترافنا بقيمته يجب أن ينبع من قراءتنا له أولاً، والاعتماد ثانياً على منهجية علمية استخدمها، لا نتمكن دائماً من الإلمام بها. وإن تمَّ التمكن من عنصري اللغة والمنهج الأساسيين، تبقى راسخة لدينا المصلحة الإيديولوجية، أو نقع رهينة الاستقطاب السياسي.
وقد ساهمت الانتفاضات والثورات، في دول عربية في السنوات الثلاث الماضية، في أن تُخرج إلى الضوء عاملي الإيديولوجيا والاستقطاب، في كيفية قراءة ما أنتجه، ويُنتجه، الآخر عنّا. فكثيرون من "قادة" الرأي في بلداننا ظلّوا رهائن موقف إيديولوجي قطعي، سمح لهم أن يرفضوا، جملة وتفصيلاً، ما كتبه غيرهم عن أحوالهم. خصوصاً أنهم، وأكثر من غيرهم، لم يتنبهوا، في غالبيتهم، إلى أن مآلات أنظمة مستبدةٍ، اعتمدت الشعارات الواهية، ستكون مليئة بالعنف والارتداد الروحي والتعصّب الديني، المعتمد على بُنى اجتماعية، مورس بحقها تصحير ثقافي وتوعوي، كانت بعض النخب جزءاً من أدواته. ومن تنبّه منهم إلى فداحة ما تنتظره هذه المجتمعات، تم سوقه إلى المعتقلات، أو غُيّب عن المجال العام، أو حُرم من النشر، أو دُفع إلى الهجرة. ومن تمكّن منهم عبر "التقيّة" أن يعبر الحواجز، ويُعبّر عن الهواجس، فقد شكّل عملة نادرة ذات قيمة عالية من الأمل، على الرغم من الألم.
من الطبيعي، بل ومن المُحبّذ، أَن لا تكون هناك سذاجة في النظر إلى ما كتبه الآخرون عنّا، واعتباره ذا قيمة وأهمية علمية بالمطلق. بل من المستحسن، بل ومن المفترض، أَن نقوم بنقده، مستعينين بأدواته ومناهجه، بعيداً عن الخطب العصماء، المليئة بالحروف، والفقيرة بالمعاني. ففيه الغث والثمين.
في غمرة الثورات المضادة، وانتصار الإحباط المنظّم لدى فئات ثورية مُستقيلة، وتحقق سيناريوهات شيطانية اختطها "قادة" متمسكون بالمناصب، مستعينين بأصدقاء على السوية نفسها من السينيكية، ومعتمدين على معارضات منقسمة، وخاضعةٍ لتقلّب الأمواج الإقليمية، نجد بعض "قادة" الرأي لدينا يستنفرون ضد كل انتقاد آتٍ من الغرب، مُلقين عليه صفة "الاستشراق" التي تحمل في أذهاننا سلبية المعنى فحسب.
لو أَردنا الإنصاف، ولو النسبي، لاعترفنا بأَن الآخر، في العلوم الاجتماعية كافة، درسنا بعمق أَحياناً، وحلل مجتمعاتنا بموضوعية كثيراً، وكتب بحوثاً تخصصية، أثرت معرفتنا، إن رغبنا، بمجتمعاتنا التي ترفّع عديدون منا عن الخوض في خصوصياتها، وفي كواليسها المشرقة والمعتمة. وما موقف بعض النخب الثقافية والفكرية، المتردد أو الهلامي، مما يحصل في بلدانهم، إلا ترجمة لعجز فكري ومعرفي، يتم تعويضه بإلقاء اللوم على الآخر "المتطقّل" و"المستشرق". كم منّا اختار أَن "يستغرب"، ويدرس أحوال الغرب، علّنا نؤسس لعلم "الاستغراب" الحقيقي، عوضاً عن أَن نستغرب دائماً؟