قبل خروجي من بيتي، كنت حائراً أفكّر في جهةٍ أخرى كي أمكث فيها. فرأيت، وأنا أفكّر، أنني أمكث في بطء خطواتي. رحتُ أتجوّل كالباحثِ عن شيءٍ من مستقبل الأشياء. أذكر أنني اشتريت ساندويشة فلافل من مطعم "أبو شاويش"، تناولتها لأُعينَ جسدي على الحركة. أذكر أنه ظلّ في جيبي ثلاثة "شواكل"، قلتُ: الندرة جميلة ومحرّضة على التفكير بالشعر الجميل.
مرّة وأنا أمشي في شارعٍ لا أعرف اسمه، داهمتني رائحة الخبزِ؛ فتذكّرتُ صاحب فرن الحارة أبو محمد، كان ينعتني بـ "نوّارة الحارة"، وحين أعطيه أجرةَ الخبيز ناقصةً قليلاً يصرخ في وجهي، ويكفّ عن نعتي بـ "النوارة"، فأقول له بتأتأةٍ طفل لا ذنب له: "في المرّة القادمة سأحضر لك الباقي".. يصرخ ويقول: "عقلي مش دفتر حتى أتذكرك.. في المرّة الجايي تعال ومعك الفلوس كاملة. مفهوم؟".
مفهوم.. وحملتُ فرش الخبز على رأسي، في منتصف الطريق تعثّرتُ فوقع الفرشُ، هَرَبَت الأرغفةُ كعجلاتٍ مني، اصطدم رغيفٌ هاربُ بطفلٍ كان يقف أمامي على بعد أمتار قليلة، كان طفلاً شقيّاً أراد إغاظتي بأخذه الرغيف وهروبه ضاحكاً إلى بيته الذي تنتهي عنده دربٌ ضيقة. لمْلمتُ الأرغفةَ، وعُدتُ إلى البيت مشدوه البال. قلتُ لأمي: لن أخبزَ عند أبو محمد في المرة القادمة فوجهه لا يضحك للرغيف الساخن!
وذات يومٍ كنتُ أمشي برفقة شخصيات الظلّ الأرضية في طريقٍ التفافيّ ضيّق هارباً من صاحب بقالة الحارة الذي استدنت منه، وتركته يسأل عني كلَّ من يعرفني. في أثناء سيري، جاءني طيف جدتي لأمي التي كانت تعيش في بيتها وحيدةً في حارةٍ أقدم بعض شبابها على محاولة اغتيال إسحاق رابين أيام الانتفاضة الأولى وهو يتجوّل في مدينة خان يونس. وذات صباح قديم، وبعد سكون حركة "بهية" الحارة؛ اكتشفت القريبات أنها ميّتة، وظروف الموت ما زالت إلى الآن غامضة.
بعض الظن قال ربما إنّ "شباب" الحارة سرقوا ذهبها لشراء السلاح، فماتت من الخوف!
وإذ أنا في حضرة طيف الجدّة صادفتني عجوزٌ، يا إلهي.. إنها تشبه جدتي! صرتُ في الطريق المكسّرة قريبًا منها. اسْتندتْ، بدورها، إلى ذراعي؛ فأخذتُ بيدها لتصعد حجر الجبهة بين الإسفلت والرصيف.. نظرتْ إليّ بحبّ، ووزّعت مع أنفاسها أجمل الأدعية.
لماذا الآن تظهر هذه العجوز، وتطلب مني العون؟ لا أعتقد بأنني سأرى تلك العجوز التي تشبه جدتي مرةً أخرى. ثمّة في الحياة مواقف وأحداث تمرّ عليك تاركة إشارات فقط، وتظلّ أنت بمنأىً عن فكّها ولكنك تعيش سؤالها وحنينها.
والرجل الذي قابلته عند الفجر أبصرت فيه، من بعيد، هيئة أبي الراحل. وأبي كان جميل الهيئة وعصاميّاً حتى في موته: غسل شعره الرماديّ بيديه الخشبيتين، شرب كوب حليب طلبه قبل موته بدقائق، جلس على حافة السرير دقيقة، ثم تمدّد كما لو كان يقوم بدور أساسي على خشبة المسرح. ثم دفن شعره كفروة الرماد على جمرة في مخدة بيضاء أظهرت لون وجهه كاستثناء أحالني إلى صورة الأرض.
كنتُ في العشرين من عمري حين عقد يده بيدي، كمن يقبض على رغيف ساخن سيمكث في يده لحظة انشغال الابن بنظرة الأب الأخيرة العميقة التي شحنت عينيّ الشابّ بغيمتين، لم تنزلا في حينه. ونحن ننقل جثمانه المسجّى على الحمّالة من مشفى ناصر (نسبة إلى جمال عبد الناصر) في غرب مدنية خانيونس، كان مذياع سيارة الأجرة الصفراء بمحاذاتنا يهدر ويقول: "منذ ساعات الفجر الأولى، وجرافات الاحتلال تتوغّل في أطراف المدينة وتقوم باقتلاع المئات من أشجار الزيتون".
مات أبي ويده في يدي ونظرته الأخيرة في عيني تمامًا في الساعة التاسعة والربع صباحًا من يوم السبت 20 يناير 2001، يوم راحة اليهود في العمل الإجرامي ضد شعب وجماليات فلسطين. مات أبي وترك لنا في حوش البيت شجرة زيتون عالية. خشبة أحد فروعها الكبيرة تشبه ساعد إنسان يرفع راية.
وكلما تحسست ظهر الراحل، شبهته بخشبة زيتون. أصدقائي الذين توطّدت علاقتي بهم وكانوا يرغبون في زيارتي، هكذا كنت أصفُ لهم هوية البيت على الهاتف: توجد زيتونة كبيرة تطلّ على الشارع الرمليّ المتفرع من شارع النجار، شارع الشهيد أسامة النجار، في الحارة التي تفصل بين المُخيم والبلد، في خان يونس. هناك تجدونني.
تلك المرّة اخترتُ طريقـًا التفافيًّا، ليس بدافع الهرب من صاحب بقالة استدنت منه وظل يسأل عني كلّ من يعرفني؛ وإنما شهوةٌ في وطء الطريق المؤدية إلى مجمع ورش الحدادة الذي تعرّض إلى دمار كبير جرّاء واحدة من الهجمات الإسرائيلية.
أشهد أنّ شكل الأرض، التي كنت أحدّقُ فيها، يشبه وجه كهل أثري. كهولة الأرض التي كنت أطأها كانت تستفزني مرتين: تارة لأنّ وجه الكهولة يُحرّك في الروح طاقاتٍ قويّةً من اللعنة والتحسّر. وتارة لأنّ وجه الكهولة الأثري يَشعّ عتاقة وأصالة.
كنت أتذكر، وأنا أتأمل شقوق الإسفلت، لوحة صديقي الشاعر والفنان التشكيلي محمد جبر (من مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة الذي بالغ في تدميره جيش الاحتلال)، وهي في اللمسات الأخيرة. اللوحة عبارة عن وجه بنيٌّ رُسمتْ عليه خطوطٌ متداخلة بالأسود المشتبك مع البني، هذه الخطوط المتداخلة والمتشعبة كنتُ أراها شقوقـًا على الوجه الذي رأيته إسفلتـًا، أو فروعَ شجرة ناشفة في الفضاء البنيّ، أو شروخًا في وجه آدمي مشروخ على مرآة غير مشروخة..
على أرض اللوحة، هناك وجود جانبي ليدٍ مقطوعة من جسد غائب. اليد تبدو متفحّمة وهي ملقاة أسفل الشجرة. وكانت نظرتي الغالبة ترى اللوحة - الوجه سماء صُبغت بلون الوحل البني الداكن. هناك لسلطة الواقع تأثيرها في إرجاء النظرة إلى خطوط اللوحة كفّن وفي تكريس قراءتها كتصدّعات أولاً.
في المساء، رافقت صاحب اللوحة إلى بيت الصديق الفنان التشكيلي والشاعر ياسر أبو جلالة ليتحدث إلينا في أمور خاصة في سهرة بلغت ذرى الليل.
ودخلنا في مشاكسة مطولة وعتاب مفتوح مع ياسر، لتغيبه الطويل عن المشهد الثقافي.
تخللت هذه المعاتبة موسيقى رحبانية حرص محمد على سماعها.. هو التزمَ صمته لا ليسمعنا، بل كان منصرفاً في هذا الجو الموسيقي لعالمٍ لم أستطع تحديد خرائطه، فقط كنت أشعر أن وجهه يتمرأى في أحلام وخيالات وانجذاباتٍ خاصة، أما ياسر فراح يدافع عن غيابه موضّحًا لي جملة من سلبيات المشهد الثقافي.
كنت يومها أتعرف إلى الصوفيين بعمق وأميل إلى نزقي الفائر مع قراءة شعر بعض الشعراء المكرسين. حيث نشأت علاقتي المتينة بالنقد -لصالح الاحتفاء بالشعر الجديد- من آرائي الشفوية الغاضبة بعد قراءة بعض ما كان ينشر كمختارات فيها من الركاكة الكثير الكثير، في إطار "مشروع كتاب في جريدة" العربي.
بعد انتهاء زيارتنا لبيت ياسر، توجّهت ومحمد إلى بيته. في الصباح، انحدرت إلى مركز مدينة غزة، تجوّلتُ لبعضِ الوقت في "الساحة"، ثم توجّهت إلى البيت الذي يستأجرانه الشاعر محمود ماضي والقاص عماد وهبة، من خان يونس.
أوّل ما كان يلفت الانتباه هو شجرة التين العارية وهي تتوسّط صحن البيت الترابيَّ. هذه اللوحة الطبيعية جعلتني أرتدّ ثانية إلى لوحة الصديق الذي تركته للتو، الفروع العارية إلا من روحها كانت في عينيّ الآن ذات الخطوط المتداخلة في اللوحة.
* شاعر فلسطيني مقيم في النرويج
اقرأ أيضاً: خان يونس: من الفجر إلى الضحى