موجة الانتفاضات الديمقراطية الجديدة

06 ابريل 2019
+ الخط -
عرف العالم العربي انتفاضات ديمقراطية منقطعة النظير في 2011، بدأت من تونس، وانتقلت عدواها إلى مصر وليبيا وسورية واليمن، إلا أنها أُجهضت كلها ما عدا في تونس التي تبقى النموذج الانتقالي الوحيد في المنطقة العربية، فقد أُجهضت الانتفاضة المصرية، وانتهت بتدعيم التسلطية وحكم العسكر. أما حراك ليبيا وسورية واليمن، فذهب ضحية تدخلات خارجيةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة، فكان أن اعتقدت الأنظمة العربية الأخرى التي عملت على الانحاء الاستراتيجي أن الأمور ستهدأ، وأن التسلطية ستسترجع عافيتها المفقودة. منحت تحولات الحرب الأهلية، والتدخلات الأجنبية (العربية والدولية) في الدول الثلاث، وتوظيف مكافحة الإرهاب فرصة للتسلطية العربية، لتستعيد قواها، وتطنب في خطاب الاستقرار أولاً، متبنيةً منطق المفاضلات التعيس: إما أنا أو الحرب الأهلية والخراب والدمار، وكأن لا خيارات غير الخيارين، فكان أن زادت تعنتاً وطغياناً، وزاد بعضها تدخلاً في شؤون أشقائه. فكل الأنظمة العربية التي دعمت المطلب الديمقراطي في ليبيا مثلاً، وتدخلت، ولا تزال تتدخل، في أزمتها، ترفض المطلب ذاته لشعوبها! فهي تنتهك حقوق شعوبها منذ الاستقلال لكنها تدّعي الدفاع عن حقوق الليبيين وغيرهم.. والواقع أنها تخادع نفسها.
على الرغم من الإجهاض الممنهج لانتفاضات الربيع العربي، وتحويل معظم بلدانها أشلاء ممزقة، ودعم التسلطية في كل الدول العربية، فإن الشعوب العربية لم تقل كلمتها الأخيرة، لأن عهد الإذعان الاجتماعي قد ولّى، فهذه الشعوب تريد أن تقرّر مصيرها مجدّداً، كما قرّرته بالتخلص من الاستعمار، قبل أن تُستلب ثوراتها وتجثم التسلطية على صدورها. ويبدو أن التسلطية العربية التي تدعمت متغذيةً من إفشال موجة الانتفاضات الديمقراطية العربية الأولى (2011)، اعتقدت أن ما حدث هو مجرّد هزة طفيفة، وليس زلزالاً حقيقياً، وأن مآلات الأمور ستجعل الشعوب تخضع لـ "أولي الأمر" مجدّداً، بل قد تطلب منهم الصفح! إنه الغرور التسلطي؛ الاعتقاد بأن الأمور حسمت. ولكنها، بسلوكها هذا، تساهم في تهيئة الظروف لانتفاضاتٍ أخرى، عوض أن تتعظ وتأخذ العبرة مما يحدث منذ 2011، لتشرع في عملية انتقال ديمقراطي سلس وتدريجي، بعيداً عن سياق الأزمات، يستند إلى تسويةٍ سياسيةٍ توافقيةٍ بين النخبة الحاكمة من جهة والنخبة المعارضة والمجتمع المدني من جهة أخرى، حتى تحفظ السلم والأمن والتنمية، وتبني دولة ديمقراطية. لكن هذا أمر من قبيل اللامفكر فيه، بالنسبة للتسلطية العربية التي أوهمت نفسها بأنها باقية لا محال.
وتدفع اليوم التسلطية في السودان والجزائر ثمن هذا الغرور والتعنت، فبدل فتح الحقل السياسي، فضل عمر البشير (في السلطة منذ 1989) مواصلة النهج التسلطي نفسه، وسار عبد العزيز 
بوتفليقة (في السلطة منذ 1999 قبل أن يستقيل يوم الثلاثاء) على النهج نفسه، فكلاهما تبنّى نموذج الرئاسة مدى الحياة، ولكن رياح المطالب الديمقراطية تجري بما لا تشتهي السفن التسلطية، فكلاهما يواجه انتفاضة شعبية مصرّة على رحيلهما. وإذا كان الأول لا يزال يقاوم، فإن الثاني استقال بضغط من الجيش. صحيحٌ أن الكلمة الفصل كانت للجيش الجزائري، لكن الشعب المنتفض هو من صنع السياق. مع ما يحدث في السودان والجزائر يتضح أن نموذج الرئاسة مدى الحياة لم يعد مقبولاً لدى الشعوب العربية التي تريد التغيير الحقيقي، وليس الترقيع السياسي لأنظمةٍ تجاوزها الزمن.
إنها موجة جديدة من الانتفاضات الديمقراطية في العالم العربي، ومن غير المستبعد أن تكون الأخيرة في المنطقة، فحتى الملكيات التي تعتقد أن أنظمتها تقوم على عقد اجتماعي (دولة الرعاية مقابل عدم الخوض في السياسة) يستند إلى ترسانتها الريعية، ليست في مأمنٍ من مثل هذه الموجات، فهي أولاً لا تعيش في عزلةٍ عن بيئتها العربية، كما أن بعضها أصبح عامل إخلالٍ باستقرار دول عربية أخرى. وسيأتي اليوم الذي سينقلب فيه السحر على الساحر. وفي التاريخ عبرةٌ لمن يتقي.
من الصعب الحكم على مآلات موجة الانتفاضات الديمقراطية الحالية، واحتمالات الموجة المقبلة. ولكن مما لا شك فيه أن هذه الموجات أصحبت تشكل اتجاهاً ثقيلاً في السياسة العربية المعاصرة. وعلى الأنظمة الحاكمة أن تعي خطورة الوضع، فهي إما أن تشرع في عملية انتقال ديمقراطي سلس ومتحكّم فيه، أو ستواجه غضب الشعب الذي لا يُشفى غليله إلا برحيلها. هناك خيار ثالث قاتل، يمكن تسميته نموذج التدمير المتبادل الشامل: أي الحرب الأهلية، والنموذج الليبي خير مثال على ذلك، فلا النظام خرج سالماً، ولا الشعب المنتفض خرج سالماً، فالبلاد دُمرت على آخرها. يبدو أن بعض الأنظمة العربية يغريها مثل هذا المشهد، ولسان حالها من بعدي الطوفان. المشكلة أن بعضها تورّط في تدخلاتٍ في دول "شقيقة"، وسيكون في هذه الحالة ساحةً لعبث الصغار والكبار، فمن لا يرحم شعبها لا يرحمه أحد.