31 أكتوبر 2024
نجاحات ومخاطر في السودان
يعاني الإسلاميون في السودان اليوم ما عاناه غير الإسلاميين في الثورة السورية. في السودان، كما في سورية، تواطأت أحزابٌ سياسية مع نظام الحكم سنوات طويلة، ساعيةً وراء مكاسب حزبية قليلة أو كثيرة، وانتهت بأن استهلكت نفسها، وحرقت لونها السياسي بالكامل. كان التواطؤ مع طغمة الحكم في سورية صنعة أحزاب يسارية تقول بالعلمانية، فجاءت الثورة السورية بلون إسلامي. أما في السودان، فقد احترف الإسلام السياسي صنعة التواطؤ مع طغمة الحكم، ما جعل الثورة هناك تتخذ لوناً يسارياً، وتلفظ الإسلاميين الذين سبق لهم أن اشتغلوا طويلاً على ما سموها سياسة "التمكين" التي عنت، في ما عنته، "احتلال الدولة أو استعمارها" عبر أسلمة قوى الأمن والجيش، لكي يبنوا سداً مانعاً عميقاً ضد التحول إلى نظام حكم ديمقراطي. في هذا المستوى من المقارنة، يتفوق إسلاميو السودان على علمانيي سورية، من حيث إن الأخيرين لم يكن لهم أي حضور "يساري" فاعل في الدولة، طوال فترة مساندتهم طغمة الحكم فيها، قياساً على الحضور الفاعل للإسلاميين في الدولة السودانية.
وتكشف هذه المقارنة أمراً آخر أكثر عمقاً من التواطؤ مع الاستبداد أو الثورة عليه، يمكن صياغته على شكل سؤال: كيف يمكن لقوى سياسية، متعارضة في فهمها وتطلعاتها وبرامجها، أن تتصدّر ثورات من طبيعة واحدة، ثورات ضد استبداد الحكم وفساده متعدّد الأشكال؟ كيف يمكن أن يتصدر اليساريون في السودان والإسلاميون في سورية ثورة من طبيعة واحدة؟ البحث عن إجابةٍ سوف يقود إلى تلمس ما يمكن تسميته "الفراغ الديمقراطي" على صعيد التكوين الاجتماعي، فلا توجد في مجتمعاتنا طبقة اجتماعية فاعلة، تشكل الديمقراطية شرطاً حيوياً لنشاطها الاقتصادي، كما على صعيد الوعي الاجتماعي العام، الأمر الذي يختزل فكرة الثورة إلى فكرة العداء، فيصبح ثورياً كل من يعادي نظام الحكم، بصرف النظر عن منشأ عدائه أو مؤدّاه. هذا الفراغ هو ما يسمح لجهات سياسية متباينة ومتعارضة أن تحتل الموقع نفسه من الثورات نفسها.
من دون التوقف عند هذه الإشكالية المهمة، سوف نقول، مروراً، إنه غالباً ما غطّى يساريون
على هذا العيب الملحوظ بكلام يساري يضمر إيماناً غيبياً "بتقدّمية" الصراعات، وكأن الديمقراطية محطة "حتمية" يصل إليها المجتمع على عربة الصراع. والحق أن الديمقراطية ليست أفقاً ضرورياً في مسار تطور المجتمع، ولا شيء يمنع أن يكون الفناء "محطةً" أقرب إلى المجتمع من الديمقراطية.
في العودة إلى الموجة الثانية من الثورات العربية، تعرض علينا تجربة الثورة في السودان، كما في الجزائر، مشهداً يقول إنه كلما كانت الثورة أبعد عن عنصر الإسلام السياسي، تكون أقرب إلى النجاح، وكانت أكثر أماناً من الانزلاق إلى صراع هوياتي يقتل الثورة قبل أن يقتل النظام السياسي الذي تثور عليه. في لوحة الصراع السوداني اليوم، نقرأ أيضاً أن المتدينين الذين يلتزمون دينهم، ويمارسونه في كل مكان في سياق ثورتهم ونضالهم، يرفضون، في الوقت نفسه، الإسلام السياسي، ويميزون أنفسهم عنه. هذا يعني أن السودانيين يحرمون أهل الإسلام السياسي من خط إمداد أساسي لهم، وهو احتكار الدين "غير السياسي"، وجعله خزان وقود مجانياً لآلتهم السياسية: "ما جئنا إلا لنصرة هذا الدين"!
خسارة ورقة الدين أمام هذا الجمهور المؤمن بالدين، وغير المؤمن بمن يزعمون تمثيله سياسياً، سوف تدفع إسلاميي السودان، من أجل استعادة هذه الورقة، إلى المزايدة بالدين (على طريقة التطرّف الإسلامي السياسي في التجربة السورية المريرة)، فيصدّرون نسخة عسيرة وصارمة ومتحجرة من التدين، بحيث تبدو ديانة الناس العادية قياساً بها، تراخياً وتخلياً و"كفراً". ويركزون، من جهة أخرى، على خطوط الانقسامات المذهبية والطائفية لتحريض عنصر الهوية واستجرار الطاقة السياسية منه. لا يبدو هذا التحول متاحاً أو منتجاً، حتى الآن، في التجربة السودانية، ولكن من دون أن يكون مثل هذا الطريق "السوري" مستبعداً، إذا ما تعقدت الحال على النظام الحاكم وبدا انتصار قوى الثورة ممكناً. ومن المؤشرات المبكرة على إمكانية هذا التحول، تهجم الداعية عبد الحي يوسف (له عدد كبير من الأتباع) على حركة الاحتجاج، لأنها تريد فرض قوانين "تتعارض مع هوية الشعب"، وتريد "فصل الحكم عن شريعة الله".
معلوم أن في السودان فرع من الإسلام السياسي يعلن دعمه لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وهذا الفرع جاهز، لا شك، للانتعاش والتوسع، حين تتاح له الظروف (علامات ضعف في نظام الحكم وتقدم القوى الديمقراطية، مع دعم خارجي أو داخلي للتطرّف الإسلامي). ولاستكشاف احتمالية هذا الخطر، يكفي تذكّر أن حسن الترابي، ذا التعليم الحقوقي الغربي،
والذي يوصف بأنه أحد رواد التجديد في الفقه الإسلامي، وصاحب الآراء الفقهية الجريئة، من إجازة إمامة المرأة في الصلاة، إلى زواج المسلمة من الكتابيّ (المسيحي أو اليهودي)، إلى المساواة بين شهادة المرأة والرجل... إلخ. لم يجد ضيراً، بعد ذلك كله، في تطبيق حدود الشريعة من جلد ورجم وقطع أيد... في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، لصالح نظامين ديكتاتوريين عسكريين. مرة لصالح نظام جعفر النميري (1969 - 1985)، الذي شارك فيه، وأخرى لصالح نظام عمر البشير (1989 - 2019)، الذي صنعه. تماماً كما لم يجد ضيراً في تدبير انقلاب "إسلامي" في 1989، على حكومة الصادق المهدي المنتخبة، انتقاماً من خسارته الانتخابية أمامه قبل ثلاث سنوات (إبريل/ نيسان 1986). كل ما يحتاجه الأمر لكي نشهد تطوراً "داعشياً" في السودان، هو ميل الكفة لصالح القوى الديمقراطية، مع دعم مالي عسكري لاتجاه إسلامي متطرّف. وتعبد هذه المعادلة، الممكنة جداً، الطريق واسعاً أمام انقلاب عسكري "إنقاذي" على الطريقة المصرية.
إذا كان تفكك قوى الثورة في السودان سوف يقود إلى ذهاب ريحها، وتراجع زخمها، وخسارتها السهلة في المحصلة أمام الدولة العسكرية الإسلامية "العميقة"، فإن تماسك قوى الثورة وتحولها إلى تهديد جدي للنظام سوف يفتح الباب أمام خطر آخر، هو مواجهة ثورة مضادة ذات طابع جهادي إسلامي، تحوِّل الصراع من كونه تحررياً ضد نظام مستبد إلى صراع أهلي يدافع عن "الهوية"، ويفتح الباب لعودة الحكم العسكري من طريق آخر. ويمكن أن يلجأ النظام السوداني إلى هذه الوصفة السورية المعدلة إذا ما استشعر خطراً جدياً. وهناك أطراف خارجية وداخلية جاهزة للدعم. قد يأتي الدعم مثلاً من "قوات الدعم السريع" التي تسيطر على ذهب جبل عامر في شمال دارفور، والتي يبدو أن زعيمها محمد حمدان حميدتي (43 سنة)، وهو نائب رئيس المجلس العسكري، يجيد خلق الفرص لنفسه، ويعلم كيف يحمي النظام الذي يتيح لأمثاله سلطاتٍ غير محدودة من خارج القانون.
على الرغم من جرائمه الموصوفة في دارفور، مسقط رأسه، ومن قمع قواته للتحرك الشعبي الذي شهدته السودان في العام 2013، استطاع حميدتي كسب رضى السودانيين، حين رفض قمع الحراك الحالي، وسحب دعمه للبشير، وسرع بذلك في إبعاده عن الحكم. ثم عزّز مكانته
الشعبية، حين اعتذر عن المشاركة في المجلس العسكري الذي ترأسه وزير الدفاع عوض بن عوف ليوم قبل أن يتنحّى، مرغماً، هو الآخر. ولكن حميدتي وافق على المشاركة في المجلس العسكري برئاسة عبد الفتاح برهان (من القلائل غير الإسلاميين في المجلس العسكري) الذي رفعه إلى رتبة فريق أول، وعينه نائباً لرئيس المجلس. مع العلم أن حميدتي ليس عسكرياً في الأصل، وقد تكون هذه نقطة القوة لديه، أي أنه متحرّر من التراتبية والنواظم العسكرية، فضلاً عن تمتعه بتمويل ذاتي لقواته التي يصل عددها إلى 40 ألف عنصر ممن يسمّيهم السودانيون "مرتزقة"، لأنهم ليسوا عسكريين نظاميين. اجتماع الدهاء والقوة العسكرية والمالية لدى حميدتي يرشّحه إلى أن يدعم تطرّفاً إسلامياً في وجه الثورة، إذا ما هدّدت النظام جدياً، كي يقوم تالياً بدور المنقذ من هذا التطرّف، سواء لصالحه أو لصالح زعيم عسكري آخر. إذا كان من غير الممكن لاتجاه إسلامي متطرّف أن يحكم السودان، فإن نشاطه سوف يشكل حجة كافية لانقلاب عسكري، يجعل من حميدتي أو عبد الفتاح برهان، أو غيرهما، نسخة سودانية من عبد الفتاح السيسي.
وتكشف هذه المقارنة أمراً آخر أكثر عمقاً من التواطؤ مع الاستبداد أو الثورة عليه، يمكن صياغته على شكل سؤال: كيف يمكن لقوى سياسية، متعارضة في فهمها وتطلعاتها وبرامجها، أن تتصدّر ثورات من طبيعة واحدة، ثورات ضد استبداد الحكم وفساده متعدّد الأشكال؟ كيف يمكن أن يتصدر اليساريون في السودان والإسلاميون في سورية ثورة من طبيعة واحدة؟ البحث عن إجابةٍ سوف يقود إلى تلمس ما يمكن تسميته "الفراغ الديمقراطي" على صعيد التكوين الاجتماعي، فلا توجد في مجتمعاتنا طبقة اجتماعية فاعلة، تشكل الديمقراطية شرطاً حيوياً لنشاطها الاقتصادي، كما على صعيد الوعي الاجتماعي العام، الأمر الذي يختزل فكرة الثورة إلى فكرة العداء، فيصبح ثورياً كل من يعادي نظام الحكم، بصرف النظر عن منشأ عدائه أو مؤدّاه. هذا الفراغ هو ما يسمح لجهات سياسية متباينة ومتعارضة أن تحتل الموقع نفسه من الثورات نفسها.
من دون التوقف عند هذه الإشكالية المهمة، سوف نقول، مروراً، إنه غالباً ما غطّى يساريون
في العودة إلى الموجة الثانية من الثورات العربية، تعرض علينا تجربة الثورة في السودان، كما في الجزائر، مشهداً يقول إنه كلما كانت الثورة أبعد عن عنصر الإسلام السياسي، تكون أقرب إلى النجاح، وكانت أكثر أماناً من الانزلاق إلى صراع هوياتي يقتل الثورة قبل أن يقتل النظام السياسي الذي تثور عليه. في لوحة الصراع السوداني اليوم، نقرأ أيضاً أن المتدينين الذين يلتزمون دينهم، ويمارسونه في كل مكان في سياق ثورتهم ونضالهم، يرفضون، في الوقت نفسه، الإسلام السياسي، ويميزون أنفسهم عنه. هذا يعني أن السودانيين يحرمون أهل الإسلام السياسي من خط إمداد أساسي لهم، وهو احتكار الدين "غير السياسي"، وجعله خزان وقود مجانياً لآلتهم السياسية: "ما جئنا إلا لنصرة هذا الدين"!
خسارة ورقة الدين أمام هذا الجمهور المؤمن بالدين، وغير المؤمن بمن يزعمون تمثيله سياسياً، سوف تدفع إسلاميي السودان، من أجل استعادة هذه الورقة، إلى المزايدة بالدين (على طريقة التطرّف الإسلامي السياسي في التجربة السورية المريرة)، فيصدّرون نسخة عسيرة وصارمة ومتحجرة من التدين، بحيث تبدو ديانة الناس العادية قياساً بها، تراخياً وتخلياً و"كفراً". ويركزون، من جهة أخرى، على خطوط الانقسامات المذهبية والطائفية لتحريض عنصر الهوية واستجرار الطاقة السياسية منه. لا يبدو هذا التحول متاحاً أو منتجاً، حتى الآن، في التجربة السودانية، ولكن من دون أن يكون مثل هذا الطريق "السوري" مستبعداً، إذا ما تعقدت الحال على النظام الحاكم وبدا انتصار قوى الثورة ممكناً. ومن المؤشرات المبكرة على إمكانية هذا التحول، تهجم الداعية عبد الحي يوسف (له عدد كبير من الأتباع) على حركة الاحتجاج، لأنها تريد فرض قوانين "تتعارض مع هوية الشعب"، وتريد "فصل الحكم عن شريعة الله".
معلوم أن في السودان فرع من الإسلام السياسي يعلن دعمه لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وهذا الفرع جاهز، لا شك، للانتعاش والتوسع، حين تتاح له الظروف (علامات ضعف في نظام الحكم وتقدم القوى الديمقراطية، مع دعم خارجي أو داخلي للتطرّف الإسلامي). ولاستكشاف احتمالية هذا الخطر، يكفي تذكّر أن حسن الترابي، ذا التعليم الحقوقي الغربي،
إذا كان تفكك قوى الثورة في السودان سوف يقود إلى ذهاب ريحها، وتراجع زخمها، وخسارتها السهلة في المحصلة أمام الدولة العسكرية الإسلامية "العميقة"، فإن تماسك قوى الثورة وتحولها إلى تهديد جدي للنظام سوف يفتح الباب أمام خطر آخر، هو مواجهة ثورة مضادة ذات طابع جهادي إسلامي، تحوِّل الصراع من كونه تحررياً ضد نظام مستبد إلى صراع أهلي يدافع عن "الهوية"، ويفتح الباب لعودة الحكم العسكري من طريق آخر. ويمكن أن يلجأ النظام السوداني إلى هذه الوصفة السورية المعدلة إذا ما استشعر خطراً جدياً. وهناك أطراف خارجية وداخلية جاهزة للدعم. قد يأتي الدعم مثلاً من "قوات الدعم السريع" التي تسيطر على ذهب جبل عامر في شمال دارفور، والتي يبدو أن زعيمها محمد حمدان حميدتي (43 سنة)، وهو نائب رئيس المجلس العسكري، يجيد خلق الفرص لنفسه، ويعلم كيف يحمي النظام الذي يتيح لأمثاله سلطاتٍ غير محدودة من خارج القانون.
على الرغم من جرائمه الموصوفة في دارفور، مسقط رأسه، ومن قمع قواته للتحرك الشعبي الذي شهدته السودان في العام 2013، استطاع حميدتي كسب رضى السودانيين، حين رفض قمع الحراك الحالي، وسحب دعمه للبشير، وسرع بذلك في إبعاده عن الحكم. ثم عزّز مكانته