في المعرض الاستعادي "تجليات" (2009)، تصادفنا من بين أعمال نذير نبعة لوحات قليلة ذات نفس تجريدي واضح، هو الفنان المولع بالتشخيص "التعبيري والواقعي". إنها الألوان نفسها المراوحة بين البني والمُغر والرصاصي التي تجعل كائناته تبدو وكأنها تخرج من صلصال الخلق الأولي للإنسان. هل هي القفزة في الفراغ، تلك التي تجعل الفنان، بل الكائن البشري يعانق موته استباقًا؟ هل هو ذلك الطابع التجريدي الذي كان يتراءى، مرَّة مرّة، بين تلافيف أعماله الواقعية المرسومة بدقة التصوير الأيقوني؟
قيل عنه إنه كان يعشق النساء إلى درجة تكريس أعماله قاطبة لها. وقيل إنه رسام المرأة العربي بامتياز. وهي سمات بديهية لا يمكننا إلا أن نقف عندها. فالأمر يجاوز ذلك بشكل لا يمكن معه أن نعتبره إراديًا أو اختياريًا. الأمر يتعلق بما يشبه الهوس obsession. والهوس من سمات الممارسة الفنية وأحد محركاتها الأساس، بما يعبر عنه من اهتمام متواتر يتشكل من التكرار والاختلاف والعودة والمعاودة والمحو والرسم، والنسيان والتذكّر.
اقرأ أيضًا: عبد الرحيم شريف وفتنة الحواس
يفسر الفنان الراحل ذلك: "أول ما يفتح الوليد عينيه عليه، هو وجه أمه. فوجه المرأة مفتاح الوجود والكون والإبصار. المرأة هي النصف الآخر من المخلوقات التي طغت فيه مكونات الأنوثة، فكانت الأنثى لتكتمل المعادلة بينها وبين الذكر. هذه الثنائية التي بُني الكون على أساسها. في البدء وجه الأم الذي هو مفتاح الوجود، وفي ما بعد تتالى الوجوه إلى الذاكرة خلال حكايا الجدات عن سيدة الحسن والجمال، وأوصافها التي تمتزج بأوصاف ابنة الجيران ووجهها المدور كالقمر، وأوصاف "عشتار" ربة الخصب في الميثولوجيا، وأوصاف المرأة في السير الشعبية والملاحم، وفي النهاية هي هذا الوجه (الأم والأخت والحبيبة والمدينة والوطن). هذه هي المرأة في عالمي البصري الذي يشكل لوحتي". هكذا يكشف الفنان عن منابع إبداعه المتخيلة، تلك التي تنطبع في الذاكرة فيصوغها الخيال ويرسمها في شكل شبه أيقوني. وكأنه بذلك يجعل من عالمه ترجمة لطفولة تجعل الرّشْد مديحًا لذاكرة الأم والأسطورة والرمز.
المرأة في عالم نذير نبعة صورة تبدو وكأنها مسكوكة أو خارجة من ألف ليلة وليلة. إنها تلك التي نتصورها بجدائلها وبلاغة حسنها وجمالها وملاحتها، وبما ينسدل على منظرها المخملي ليخفي تداوير جسدها ولا يفضح أردافها الشهية. يبني الفنان السياق الذي يندرج فيه ذلك الجسد بدقة يحسب وضعياته وووجهاته. فهو يجعله يندرج في فضاء كثير الزخرفة، يغلب عليه النور المخملي، الذي يمنح للوحة بكاملها طابع الحلم. إنه عالم يكون تارة عبارة عن أوراق وزهور كابية النور، وأحيانًا عن خلفية مكونة من الزخارف الفسيفسائية والإفريزية المعمارية، وأخرى يكاد فيها الجسد (البورتريه في غالب الأحيان) يخرج من فضاء ضبابي كأنه يولد أمامنا.
لن أجازف أبدًا إذا قلت إن نذير نبعة يندرج في ما سميته في مناسبات كثيرة بـ"الاستشراق الداخلي". أي أنه من زمرة أولئك الفنانين العرب الكبار من أبناء جيله، الذين تمثّلوا الرؤية الاستشراقية وخلصوها من الكثير من الاستيهامات المبالغ فيها من غير أن يخلصوها من تقنية التصوير والرسم. وهو مع مريم مزيان وحسن الكلاوي وأحمد بن يوسف، وبشكل جزئي قبلهما محمد راسم، أسسوا للمشروعية الداخلية للاستشراق. الأمر ليس قدحًا أبدًا ولا تبخيسًا من القيمة "الوطنية" لهذا الضرب من الإبداع، وإنما يتعلق بمكون أساس من مكونات الإبداع التصويري لدينا، الذي يشكل امتدادًا تأويليًا لتاريخ كبير من التصوير والتشكيل.
اقرأ أيضًا: أن تكون اليوم قيمًا على المعارض في العالم العربي
يقوم هذا النمط من التصوير على بناء موضوعه بحيث لا يرتبط بوضع مرجعي معيّن. من ثم فالتصوير يكون متخيلًا كلية والملامح متسامية ومتناسلة ولا تعبر بالضرورة عن الشخصية المرجعية التي تحيل عليه (فغَواني إنغريس الشرقيات مثلًا يحلْن على الملامح الوجهية والجسمانية الرومانية والإغريقية). كما أن السياق يكون متخيلًا كلية ومركبًا من عناصر قد تكون متنافرة. إضافة إلى هذا العناصر البنيوية نستشف بعض المقومات الأساس التي تركها لنا الاستشراق التصويري كـ"الأودلسكا". ولنا في أودالسكا (غانية) نذير نبعة نموذج ساطع لذلك. إنها وضعية الغانية، غير أن الفنان يقوم بتأويل شخصي لها ينزعها من سياقها الاستشراقي، بحيث يحتفظ فقط بالوِضْعة المستلقية للمرأة، مع كشف عن النهديْن، ليتلاعب بشكل شخصي بذلك من خلال خلق سياق جديد ليس هو السياق الاستشراقي (بخادمته السوداء وأشيائه المشيرة للحريم). لا مجال هنا للثياب المزركشة، فالغانية تسبح في محيط من الزهور والورود والألياف الشجرية التي تحيط بها وتغطيها وكأنها تعيد أمامنا خلق المرأة - الطبيعة، المرأة الأسطورية.
هكذا نصل إلى جوهر النظرة الفنية والجمالية لنذير نبعة لنقف على تميزها. فالرجل كان رسامًا موهوبًا يبني عالمه على قدراته الفائقة تلك، بحيث يجعل أعيننا تتمايل لفرط دقة تعابير الجسد الأنثوي وملامحه وتفاصيله وتحولاته. "الجوهر" يكمن ذلك، في الطابع الأسطوري الذي يضفيه على الوجه وعلى محيطه العَدَني، كما على الرمزية الأسطورية للحمامة. كما يكمن أيضا في ذلك الإيقاع، شبه العروضي، الذي يصفيه على حركية اللوحة ومكوناتها. لهذا الأمر نراه قد شبّه الشرق بالرمان. ولهذا أيضا طغى اللون "الرماني" على أعماله وعلى الحِسان اللواتي نخالهن خارجات من بين حباته. بل لهذا جاءت كائناته أشبه بالحور العين يتسرْبلن في عوالم من الخيال بحيث ينفلتن من كل واقعية مفترضة.
اقرأ أيضًا: منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
من أيام فقط غادرنا نذير نبعة عن عمر 78 سنة، بعد أن اخترق بإبداعاته مجمل تاريخ الفن العربي الحديث. ولا زلت أحتفظ بانطباعات لقائنا في لبنان منذ أكثر من عقد. وجدت أن ملامح الرجل تنبئ عن سمات عالمه الأنثوي المخملي، النابع من أعماق دمشق وبيوتاتها وأنوارها الخافتة وأسرار نسائها. خمنت أيضًا، أنا ابن مدينة فاس العريقة، أن الحلم يجعل كل خيالاتنا زخرفية، مطبوعة بما يتخلّل تصوراتنا من علاقة ملغزة بالمرأة، يجعل منها محجوب الرؤية ومجهول الحواس. غادرنا نذير نبعة بعد أن أثث عالمنا البصري بأيقوناته الجذابة، وبشاعريتها الشاذية بالجمال العدني للمرأة، كما لو أنها لم تنزل أبدا من الجنة.
اقرأ أيضًا: عبد الرحيم شريف وفتنة الحواس
يفسر الفنان الراحل ذلك: "أول ما يفتح الوليد عينيه عليه، هو وجه أمه. فوجه المرأة مفتاح الوجود والكون والإبصار. المرأة هي النصف الآخر من المخلوقات التي طغت فيه مكونات الأنوثة، فكانت الأنثى لتكتمل المعادلة بينها وبين الذكر. هذه الثنائية التي بُني الكون على أساسها. في البدء وجه الأم الذي هو مفتاح الوجود، وفي ما بعد تتالى الوجوه إلى الذاكرة خلال حكايا الجدات عن سيدة الحسن والجمال، وأوصافها التي تمتزج بأوصاف ابنة الجيران ووجهها المدور كالقمر، وأوصاف "عشتار" ربة الخصب في الميثولوجيا، وأوصاف المرأة في السير الشعبية والملاحم، وفي النهاية هي هذا الوجه (الأم والأخت والحبيبة والمدينة والوطن). هذه هي المرأة في عالمي البصري الذي يشكل لوحتي". هكذا يكشف الفنان عن منابع إبداعه المتخيلة، تلك التي تنطبع في الذاكرة فيصوغها الخيال ويرسمها في شكل شبه أيقوني. وكأنه بذلك يجعل من عالمه ترجمة لطفولة تجعل الرّشْد مديحًا لذاكرة الأم والأسطورة والرمز.
المرأة في عالم نذير نبعة صورة تبدو وكأنها مسكوكة أو خارجة من ألف ليلة وليلة. إنها تلك التي نتصورها بجدائلها وبلاغة حسنها وجمالها وملاحتها، وبما ينسدل على منظرها المخملي ليخفي تداوير جسدها ولا يفضح أردافها الشهية. يبني الفنان السياق الذي يندرج فيه ذلك الجسد بدقة يحسب وضعياته وووجهاته. فهو يجعله يندرج في فضاء كثير الزخرفة، يغلب عليه النور المخملي، الذي يمنح للوحة بكاملها طابع الحلم. إنه عالم يكون تارة عبارة عن أوراق وزهور كابية النور، وأحيانًا عن خلفية مكونة من الزخارف الفسيفسائية والإفريزية المعمارية، وأخرى يكاد فيها الجسد (البورتريه في غالب الأحيان) يخرج من فضاء ضبابي كأنه يولد أمامنا.
لن أجازف أبدًا إذا قلت إن نذير نبعة يندرج في ما سميته في مناسبات كثيرة بـ"الاستشراق الداخلي". أي أنه من زمرة أولئك الفنانين العرب الكبار من أبناء جيله، الذين تمثّلوا الرؤية الاستشراقية وخلصوها من الكثير من الاستيهامات المبالغ فيها من غير أن يخلصوها من تقنية التصوير والرسم. وهو مع مريم مزيان وحسن الكلاوي وأحمد بن يوسف، وبشكل جزئي قبلهما محمد راسم، أسسوا للمشروعية الداخلية للاستشراق. الأمر ليس قدحًا أبدًا ولا تبخيسًا من القيمة "الوطنية" لهذا الضرب من الإبداع، وإنما يتعلق بمكون أساس من مكونات الإبداع التصويري لدينا، الذي يشكل امتدادًا تأويليًا لتاريخ كبير من التصوير والتشكيل.
اقرأ أيضًا: أن تكون اليوم قيمًا على المعارض في العالم العربي
يقوم هذا النمط من التصوير على بناء موضوعه بحيث لا يرتبط بوضع مرجعي معيّن. من ثم فالتصوير يكون متخيلًا كلية والملامح متسامية ومتناسلة ولا تعبر بالضرورة عن الشخصية المرجعية التي تحيل عليه (فغَواني إنغريس الشرقيات مثلًا يحلْن على الملامح الوجهية والجسمانية الرومانية والإغريقية). كما أن السياق يكون متخيلًا كلية ومركبًا من عناصر قد تكون متنافرة. إضافة إلى هذا العناصر البنيوية نستشف بعض المقومات الأساس التي تركها لنا الاستشراق التصويري كـ"الأودلسكا". ولنا في أودالسكا (غانية) نذير نبعة نموذج ساطع لذلك. إنها وضعية الغانية، غير أن الفنان يقوم بتأويل شخصي لها ينزعها من سياقها الاستشراقي، بحيث يحتفظ فقط بالوِضْعة المستلقية للمرأة، مع كشف عن النهديْن، ليتلاعب بشكل شخصي بذلك من خلال خلق سياق جديد ليس هو السياق الاستشراقي (بخادمته السوداء وأشيائه المشيرة للحريم). لا مجال هنا للثياب المزركشة، فالغانية تسبح في محيط من الزهور والورود والألياف الشجرية التي تحيط بها وتغطيها وكأنها تعيد أمامنا خلق المرأة - الطبيعة، المرأة الأسطورية.
هكذا نصل إلى جوهر النظرة الفنية والجمالية لنذير نبعة لنقف على تميزها. فالرجل كان رسامًا موهوبًا يبني عالمه على قدراته الفائقة تلك، بحيث يجعل أعيننا تتمايل لفرط دقة تعابير الجسد الأنثوي وملامحه وتفاصيله وتحولاته. "الجوهر" يكمن ذلك، في الطابع الأسطوري الذي يضفيه على الوجه وعلى محيطه العَدَني، كما على الرمزية الأسطورية للحمامة. كما يكمن أيضا في ذلك الإيقاع، شبه العروضي، الذي يصفيه على حركية اللوحة ومكوناتها. لهذا الأمر نراه قد شبّه الشرق بالرمان. ولهذا أيضا طغى اللون "الرماني" على أعماله وعلى الحِسان اللواتي نخالهن خارجات من بين حباته. بل لهذا جاءت كائناته أشبه بالحور العين يتسرْبلن في عوالم من الخيال بحيث ينفلتن من كل واقعية مفترضة.
اقرأ أيضًا: منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
من أيام فقط غادرنا نذير نبعة عن عمر 78 سنة، بعد أن اخترق بإبداعاته مجمل تاريخ الفن العربي الحديث. ولا زلت أحتفظ بانطباعات لقائنا في لبنان منذ أكثر من عقد. وجدت أن ملامح الرجل تنبئ عن سمات عالمه الأنثوي المخملي، النابع من أعماق دمشق وبيوتاتها وأنوارها الخافتة وأسرار نسائها. خمنت أيضًا، أنا ابن مدينة فاس العريقة، أن الحلم يجعل كل خيالاتنا زخرفية، مطبوعة بما يتخلّل تصوراتنا من علاقة ملغزة بالمرأة، يجعل منها محجوب الرؤية ومجهول الحواس. غادرنا نذير نبعة بعد أن أثث عالمنا البصري بأيقوناته الجذابة، وبشاعريتها الشاذية بالجمال العدني للمرأة، كما لو أنها لم تنزل أبدا من الجنة.