نصارى في مشرقٍ ملتهب
عشيّة مجزرة كنيسة القدّيسين:
نفد صبر سائق سيارة الأجرة التي كانت تقلّنا من السويس إلى القاهرة، بعد "تزميره" للسيارة التي تسير كالسلحفاة أمامنا، لتفسح الطريق فلم تفعل، فقام بتجاوزها، ولمّا صرنا بجانب السيارة – السلحفاة، رأينا قسّاً طاعناً في السنّ يتهالك على مقودها، فقال الشاب المصري الذي يجلس بجانبي: ابن الوسخة موش عاوز يخلي حد يمر. كان الشاب المصري في العشرينات. استغربت شتيمته رجلاً طاعناً في السنّ لم يسمع، ربما، "كلكس" سيارة الأجرة، فقلت للشاب: لماذا شتمته؟ فقال: لأنه ابن وسخة. ظننت أن وصفه القس الطاعن في السنِّ بـ "الوساخة" مجرد تعبير عادي يجري على ألسن المصريين. ولكن، تبيَّن لي أن له علاقة، فعلاً، بالوساخة والنظافة بمعناهما الحرفي.
فهمت من كلام الشاب المصري أنَّ المسيحيين لا يستحمّون، ولا يغسلون أيديهم بعد قضاء حاجتهم، عكس المسلمين الذين يتطهَّرون خمس مرات في اليوم، فسألته إن كان يصلّي خمس مرات في اليوم فاعترف، بشيء من الارتباك، أنه يؤدي صلاة الجمعة فقط، وعلَّل ذلك بظروف عمله. فقلت له: هذا يعني أن هناك مسلمين لا يتطهَّرون خمس مرات في اليوم، وأنهم (بسبب ظروف عملهم!) قد لا يغسلون أيديهم بعد قضاء حاجتهم. فقال: جايز.
جعلني كلام الشاب المصري (المسلم) أفكّر بالتنميطات التي تستقرُّ في أذهان الناس تجاه بعضها من دون فحص أو مساءلة. لم يطل حديثي مع ذلك الشاب، ولا أعرف إن كانت له علاقة مباشرة بمسيحيي بلاده، أم لا. لم أكن أحتاج إلى مزيد من الكلام معه، لأعرف أن الأمر قد يتجاوز النظافة، أو الطهارة، إلى طيفٍ واسع من الاختلافات التي تحطُّ من المصري المسيحي في نظر مواطنه المسلم، ولنا في كلام "دعاةٍ" يحتلّون الشاشات والفضاء العام عن "الكفار" خير دليل.
الترحّم على شادي أبو جابر:
توفى الفنان الأردني الشاب شادي أبو جابر في حادث سيارة. فُجِعَ أهله وأصدقاؤه وجمهوره الصغير بموته المفاجئ، والمبكّر، وترحّموا عليه. لم يفكِّر الأردنيون المسلمون الذين ترحَّموا على هذا الشاب (17 عاماً) أنهم بذلك "يخالفون" تعاليم دينهم. ولكنَّ هذا ما سمعوه من أفواه مشايخ ومواطنين متشدّدين دينياً قرَّعوهم على فعلتهم، وجاءوهم بالبراهين التي تردعهم، إذ لا "يجوز" للمسلم الترحّم على المسيحي، لأنه، ببساطة، "كافر"! واعتدَّ الذين رفضوا الترحّم على المسيحي (وأبناء الكتاب عموماً!) بفتاوى كثيرة مؤصَّلة. منها سؤال أحدهم الشيخ السعودي بن باز عن جواز الترحّم على المسيحيين (الكفار) فقال إنَّه لا يجوز، وجاء بآية من القرآن، بل قال إنَّ النبي محمد استأذن ربَّه أن يترحَّم على أمه (ماتت قبل الإسلام) فلم يأذن له!!
من يريد أن يعرف واقعة الترحّم على الفنان الأردني المسيحي، شادي أبو جابر، فليعد إلى "السوشيال ميديا" التي اكتظت بهذا الرغاء. وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فها هو "الداعية" المتطرّف أمجد قورشة الذي أفتى، من قبل، بعدم جواز تهنئة الأردنيين المسيحيين بأعيادهم، يخرج من السجن، بعدما اتهم ببثه فكراً داعشياً.
مقالة بوابة "الحرية والعدالة":
لست مختصاً بالتاريخ المصري الحديث، غير أني أتابع أخبار المحروسة ووقائعها، لإيماني أنَّ لا نهضة عربية من دون مصر. وها نحن نرى حالنا عندما أخرجوا مصر من مصائر العالم العربي، ولم يمكّنوها من مصائرها. مما أعرف أن مسيحيي مصر لم يكونوا قادرين على بناء، أو ترميم، كنسيةٍ إلا بقرار رئاسي (استمراراً لـ "الخط الهمايوني" العثماني). لسببٍ قد لا يكون لعيون الوحدة الوطنية، أقرَّ البرلمان المصري حقَّ الأقباط في بناء كنائسهم وترميمها، لكن بشروطٍ لا تتساوى فيها مع بناء الجوامع. وعلى الرغم من هذا "الوضع الخاص" الذي أحيط ببناء الكنائس، ما يكرّس المسيحيين أقلية (وهذا مخالف للدستور المصري) فإن المتأسلمين المتأدلجين توعّدوا المصريين المسيحيين بالويل والثبور، وكاد أحدهم (وهو "كاتب" إخواني) يهدّدهم بالفناء والمحق.
هذه ثلاث حوادث – لقطات تختلف زمنياً، وبلداناً، غير أن هناك جامعاً يجمعها هو: التأدلج الديني ذو النزعة الاستعلائية المُبشَّرة، وحدها، بالرحمة والجنة، فيما باقي عباد الله (ستة مليارات) إلى الجحيم. هذا هو الخطر الذي تغاضت عنه الدولة العربية، لكي لا تثير عليها الإسلام السياسي، أو المتشدّدين الدينيين. كان شعار هذه الدولة الذي أوردها الهلاك (وأوردنا معها): دعوا الحكم وشأنه وخذوا المجتمع.. "اشبعوا فيه".