إثر سقوط نظام صدّام حسين لم يتراجع كثيرون عن نهب الآثار ومتاحفها، بعضهم مارسوا ذلك بدواع ارتزاقية منظّمة من جماعات لصوصية عالمية، والبعض الآخر قاموا بذلك لدواع عبثية من دون تقديم أي معنى لما قاموا به مع أنهم، أيضاً، كانوا يحصلون على أثمان مقابل بيع اللقى المنهوبة.
بدا لي حينها، أن هذه الآثار وهذا التاريخ العظيم بحضارته وأمجاده، لا يعني شيئاً لهذا الإنسان المسحوق، الذي عاش معظم عمره تحت سطوة القمع والتسلّط، في وطن لم يمنحه سوى الحرمان من الإحساس بالحياة والجوع لكل شيء.
وهذا السلوك لم يقتصر وجوده على العراق وحده، بل وجدناه في اليمن وسورية ومصر وغيرها من البلدان، وفي مراحل مختلفة من التاريخ.
كنتُ قد شاهدت العديد من الآثار والمخطوطات العربية التي صارت من مقتنيات متاحف أوروبية، واستغربتُ مرّة وأنا أزور متحف متروبوليتان في نيويورك من حجم وجود الآثار المصرية الضخمة والمهمّة التي تحتلّ أحد أجنحة المتحف الكبيرة، إلى جانب الآثار الآشورية والفنون الإسلامية. يومها سألت رفيقي في الزيارة الدكتور محمد أحمد جرهوم، وزير الثقافة والإعلام اليمني الأسبق، لماذا لا تحاول السلطات الثقافية العربية عمل شيء من أجل الحفاظ على هذه الآثار والمخطوطات؟ فقال لي إنّه كان متحمّساً لهذه الفكرة في السابق، أمّا وقد رأى مدى الإهمال والعبث الذي يلحق بهذه الآثار في موطنها فإنّه صار يظنّ أن وجودها في هذه المتاحف أكثر أماناً وفائدة للباحثين فيها.
أتذكّر هذا الحديث وأنا أتابع ما يجري من تخريب وهدم لآثار العراق النادرة، التي تعتبر شواهد مهمّة وأساسية على مراحل تاريخية، سادت فيها مملكات وحضارات، دلّت على وجود الإنسان وتحولاته الاجتماعية والثقافية. وهو سلوك صار يقوم به هُوجٌ ومعتوهون لا علاقة لهم، كما يبدو لي، بأي ضمير. وإلّا لكانوا حافظوا على الضمير الكامن في تلك التماثيل والحجارة التي هدّموها، مهما اختلفوا معه، أو مع تاريخية هذا الضمير الحي في مواده الجامدة أكثر من ضميرهم الميّت والمميت.
فما يتردّد من قول إنّ العرب حطّموا كل الأصنام والبيوت المعظّمة ليس صحيحاً بالمطلق، فالمراجع التاريخية العربية تذكر أنّ هناك بعض الأشخاص الذين احتفظوا بأصنامهم في العصور اللاحقة لظهور الإسلام، لتذكّر ماضيهم، كحال الرجل الإزدي الذي قال إسحاق الموصلي إنّه بقي محتفظاً بحجر كان يعبد قبل الإسلام، وإنّه أخبر بهذا أثناء تذاكر قوم من نزار واليمن أصنامهم القديمة؛ وهناك بيوت كانوا يعظِّمونها، وبقيت على حالها، من دون أن تصنّف كبيوت عبادة، ومنها كعبة في نجران عظّمها بنو الحارث وذكرها الأعشى "ولم تكن كعبة عبادة"، ومثلها كعبة لإياد كانت بين الكوفة والبصرة. وانتفع العرب بخيرات الأصنام، حتّى بعد تحطيمها، ومنها صنم قيل إن اسمه مناة، وفي رواية أخرى الفلس، وقد كانوا يعبدونه إلى أن ظهر الإسلام، حيث قام علي بن أبي طالب بهدمه، لكنّه لم يترك الأشياء الثمينة الموضوعة حوله، وأخذ من فوقه سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان، قد قلّده إياهما؛ ويقال إن نبي الإسلام وهبهما لعلي حين جاء بهما إليه، وإنَّ ذا الفقار، سيف علي المشهور، أحدهما. وقد بقيت التماثيل الأثرية في الكثير من البلدان، ومنها العراق وسورية ومصر واليمن، من دون أن تتعرّض لأي تخريب أو هدم طوال التاريخ الإسلامي باستثناء بعض الممارسات المتطرّفة في بعض الأوقات والتي نتجت من مواجهات أو حروب عقائدية.
هكذا، فإنّ الهدّامين الجدد لم يراعوا أي مصلحة دنيوية، أو دينية، وبرهنوا على عدم وجود أي علاقة لهم بهذا العصر وثقافته، بل وبثقافة العصور الماضية، إذ تعاملوا مع التماثيل العظيمة وكأنّهم أمام أصنام للعرب القدماء التي كان يستوجب على أسلافهم تحطيم بعضها لمقتضيات دينية، وهي مقتضيات لم يعد هناك ما يبرّرها في عصر تجاوز فيه الناس الكثير من العبادات، حيث صارت شواهدها عبارة عن أدلة ثقافية على أزمنتها وأمكنتها.
لقد فضّل كثيرون، طوال العقود الماضية، الهجرة من المنطقة العربية هرباً من الاستبداد السياسي وفقر الحياة المحاصرة بالتخلف والحروب حاملين معهم ذكريات عن أوطان عاشت حضارات لافتة، بقيت آثارها بالنسبة لهم بمثابة العزاء عن اهتراء الحال المعاش، ولم يكونوا يدركون، ربّما، أنهم في يوم ما سيفقدون هذا العزاء؛ وكأن عليهم، حين عجزوا عن عمل شيء من أجل إعادة صياغة حال بلدانهم، أن يفكّروا أيضاً بهجرة هؤلاء الموتى، فيحملون شواهدهم الأثرية، وكلّ ما يدل عليهم، بعيداً عن معاول هدم الحياة وذاكرتها.
بدا لي حينها، أن هذه الآثار وهذا التاريخ العظيم بحضارته وأمجاده، لا يعني شيئاً لهذا الإنسان المسحوق، الذي عاش معظم عمره تحت سطوة القمع والتسلّط، في وطن لم يمنحه سوى الحرمان من الإحساس بالحياة والجوع لكل شيء.
وهذا السلوك لم يقتصر وجوده على العراق وحده، بل وجدناه في اليمن وسورية ومصر وغيرها من البلدان، وفي مراحل مختلفة من التاريخ.
كنتُ قد شاهدت العديد من الآثار والمخطوطات العربية التي صارت من مقتنيات متاحف أوروبية، واستغربتُ مرّة وأنا أزور متحف متروبوليتان في نيويورك من حجم وجود الآثار المصرية الضخمة والمهمّة التي تحتلّ أحد أجنحة المتحف الكبيرة، إلى جانب الآثار الآشورية والفنون الإسلامية. يومها سألت رفيقي في الزيارة الدكتور محمد أحمد جرهوم، وزير الثقافة والإعلام اليمني الأسبق، لماذا لا تحاول السلطات الثقافية العربية عمل شيء من أجل الحفاظ على هذه الآثار والمخطوطات؟ فقال لي إنّه كان متحمّساً لهذه الفكرة في السابق، أمّا وقد رأى مدى الإهمال والعبث الذي يلحق بهذه الآثار في موطنها فإنّه صار يظنّ أن وجودها في هذه المتاحف أكثر أماناً وفائدة للباحثين فيها.
أتذكّر هذا الحديث وأنا أتابع ما يجري من تخريب وهدم لآثار العراق النادرة، التي تعتبر شواهد مهمّة وأساسية على مراحل تاريخية، سادت فيها مملكات وحضارات، دلّت على وجود الإنسان وتحولاته الاجتماعية والثقافية. وهو سلوك صار يقوم به هُوجٌ ومعتوهون لا علاقة لهم، كما يبدو لي، بأي ضمير. وإلّا لكانوا حافظوا على الضمير الكامن في تلك التماثيل والحجارة التي هدّموها، مهما اختلفوا معه، أو مع تاريخية هذا الضمير الحي في مواده الجامدة أكثر من ضميرهم الميّت والمميت.
فما يتردّد من قول إنّ العرب حطّموا كل الأصنام والبيوت المعظّمة ليس صحيحاً بالمطلق، فالمراجع التاريخية العربية تذكر أنّ هناك بعض الأشخاص الذين احتفظوا بأصنامهم في العصور اللاحقة لظهور الإسلام، لتذكّر ماضيهم، كحال الرجل الإزدي الذي قال إسحاق الموصلي إنّه بقي محتفظاً بحجر كان يعبد قبل الإسلام، وإنّه أخبر بهذا أثناء تذاكر قوم من نزار واليمن أصنامهم القديمة؛ وهناك بيوت كانوا يعظِّمونها، وبقيت على حالها، من دون أن تصنّف كبيوت عبادة، ومنها كعبة في نجران عظّمها بنو الحارث وذكرها الأعشى "ولم تكن كعبة عبادة"، ومثلها كعبة لإياد كانت بين الكوفة والبصرة. وانتفع العرب بخيرات الأصنام، حتّى بعد تحطيمها، ومنها صنم قيل إن اسمه مناة، وفي رواية أخرى الفلس، وقد كانوا يعبدونه إلى أن ظهر الإسلام، حيث قام علي بن أبي طالب بهدمه، لكنّه لم يترك الأشياء الثمينة الموضوعة حوله، وأخذ من فوقه سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان، قد قلّده إياهما؛ ويقال إن نبي الإسلام وهبهما لعلي حين جاء بهما إليه، وإنَّ ذا الفقار، سيف علي المشهور، أحدهما. وقد بقيت التماثيل الأثرية في الكثير من البلدان، ومنها العراق وسورية ومصر واليمن، من دون أن تتعرّض لأي تخريب أو هدم طوال التاريخ الإسلامي باستثناء بعض الممارسات المتطرّفة في بعض الأوقات والتي نتجت من مواجهات أو حروب عقائدية.
هكذا، فإنّ الهدّامين الجدد لم يراعوا أي مصلحة دنيوية، أو دينية، وبرهنوا على عدم وجود أي علاقة لهم بهذا العصر وثقافته، بل وبثقافة العصور الماضية، إذ تعاملوا مع التماثيل العظيمة وكأنّهم أمام أصنام للعرب القدماء التي كان يستوجب على أسلافهم تحطيم بعضها لمقتضيات دينية، وهي مقتضيات لم يعد هناك ما يبرّرها في عصر تجاوز فيه الناس الكثير من العبادات، حيث صارت شواهدها عبارة عن أدلة ثقافية على أزمنتها وأمكنتها.
لقد فضّل كثيرون، طوال العقود الماضية، الهجرة من المنطقة العربية هرباً من الاستبداد السياسي وفقر الحياة المحاصرة بالتخلف والحروب حاملين معهم ذكريات عن أوطان عاشت حضارات لافتة، بقيت آثارها بالنسبة لهم بمثابة العزاء عن اهتراء الحال المعاش، ولم يكونوا يدركون، ربّما، أنهم في يوم ما سيفقدون هذا العزاء؛ وكأن عليهم، حين عجزوا عن عمل شيء من أجل إعادة صياغة حال بلدانهم، أن يفكّروا أيضاً بهجرة هؤلاء الموتى، فيحملون شواهدهم الأثرية، وكلّ ما يدل عليهم، بعيداً عن معاول هدم الحياة وذاكرتها.