قبل سنوات، كان عيد الميلاد في الدنمارك فرصة للمتاجر التي تتزيّن وتلجأ إلى كلّ الوسائل الممكنة لجذب المستهلك، فيفتح محفظة نقوده لشراء ما يرغب. كان ذلك قبل انتشار البطاقات الممغنطة. وكانت المحال التجارية تتسابق في تقديم العروض قبل أن تغلق أبوابها ابتداءً من 23 ديسمبر/ كانون الأول، احتراماً لقدسية عيد الميلاد.
واليوم، تغيّرت الحال في البلاد مثلما تغيّرت أنماط تبادل الهدايا وأساليب قضاء العيد، ولم يعد مستغرباً سماع الشكاوى على امتداد شوارع المشاة في مراكز المدن الكبيرة والصغيرة، مذ لحظة فتح الأسواق عند العاشرة صباحاً. وتقول صونيا أندرسن، وهي مديرة متجر ملابس، إنّ "المنافسة صارت شديدة مع شيوع ابتياع هدايا الميلاد عبر الإنترنت"، في حين تساعد في جرّ عربة الملابس إلى الشارع، في وسط آرهوس الدنماركية.
وسط الازدحام الصباحي، تنظَّم نزهات لأطفال الرياض حتى يتفرّجوا على زينة الميلاد والألعاب. فتقول بيرغيت يبسن وهي تجرّ مع زميلاتها المربيات عربات الأطفال في الشارع، إنّ تلك النزهات "تحمل مخاطر فتح شهية الأطفال على طلب هدايا ثمينة من الوالدَين والأجداد". من جهته، يقف بيتر في كوخه الخشبي ويقلّب حبّات اللوز بقطر السكر والقرفة وسط البخار المتصاعد بكثافة، قبل أن يغلّفها بعناية بكيس صغير شفاف ويعرض على المارة تذوقها. بالنسبة إلى بيتر "هذه فرصة، إذ تبيع في هذه الأيام بقدر ما تبيع طوال العام. فالمارة تجذبهم الرائحة، ونحن نحرص في كلّ عام أن نكون في المكان نفسه ليتعوّد علينا الزبائن".
تسوّق ضروري قبل العيد (ناصر السهلي) |
ولأنّ أوروبا لم يعد تفصلها حدود، فإنّه من غير المستغرب أن يستفيد صانعو أجبان هولنديون مثلاً من أجواء عيد الميلاد ليعرضوا منتجاتهم في وسط المدينة، مع ما يحيط بسوق الميلاد من أضواء وزينة مبهرة تجذب العابرين. ومثلهم يفعل جيرانهم في السوق، وهم من بلغاريا وبريطانيا وليتوانيا. فالعيد بحسب محمد المغربي، وهو صاحب بسطات للقبعات المميزة في سوق الميلاد، "فرصة أفضل للتسويق من بقيّة أيام السنة".
في ذلك السوق، كانت سميرة وهي من أصول عربية، تتجوّل مع ابنتها. تقول إنّ "شراء الهدايا أمر لا بدّ منه في ميلاد الدنمارك". تضيف أنّ "الأبناء يسمعون أصدقاءهم الدنماركيين وهم يتحدّثون عن لائحة الرغبات الخاصة بالهدايا". يُذكر أنّ هذه اللائحة تقليد دنماركي، يمكن للشخص تقديمها إلى الذين تتبادل الهدايا معهم من أهل، وهم يتكفّلون بتأمين ما تتضمّنه من رغبة بطرق مختلفة. وتبدو هنا سميرة حاسمة، "فأنا لا أرغب في أن يشعر أبنائي بأيّ تمييز. لم أشترِ شجرة الميلاد، لكنّني أودّ أن أقدّم لهم هدايا حتى يكونوا كبقية أفراد المجتمع".
وثمّة جدال حول الهدية بين عرب الدنمارك، مثلما هي الحال بالنسبة إلى زينة الميلاد. البعض يربط الأمر بـ"التحريم لأنّه لا يتوافق والإسلام"، وآخرون يرون فيه "تقليداً لا علاقة له بالدين إذ إنّ الصغار ينتظرون عيد الميلاد لارتباطه بالهدية". لكنّ هذا الجدال لا يمنع أن تزيّن عائلات عربية منازلها مثلما تفعل العائلات الدنماركية.
العائلة كلها في السوق (ناصر السهلي) |
تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة دنماركيين يعترفون بـ"كرههم" لعيد الميلاد. بيرتا على سبيل المثال، ممتعضة من "تأزّم نفسي يترافق والميلاد". تضيف أنّ العيد "يتسبّب في ضغوطات عدّة ومشكلات اجتماعية، وهو يرهقني مالياً".
ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّ سوق الميلاد "فرصة كبرى" بالنسبة إلى تجّار الدنمارك. فمتوسّط ما يصرف بيت دنماركي يتجاوز 4300 كرون دنماركي (نحو 690 دولاراً أميركياً) خلال هذا الموسم الذي يُعَدّ كذلك فرصة لتنشيط عمل شركات التوصيل. إلى ذلك، وبحسب تقديرات مجلس التجارة في الدنمارك، فإنّ الدنماركيين يصرفون على تسوّق الميلاد أكثر من 12 مليار كرون (نحو مليارَي دولار).
"أونلاين"
شكوى أصحاب المتاجر من شيوع شراء الهدايا عبر الإنترنت، تدعمها أرقام رسمية صادرة عن مجلس التجارة في الدنمارك، تفيد بأنّ 63 في المائة صرّحوا بأنّهم اشتروا هدية واحدة "أونلاين" على أقلّ تقدير. والأمر لا يقتصر على فئة الشباب التي تسجّل نسبة 40 في المائة، فكبار السنّ من جهتهم يختارون هداياهم عبر الإنترنت بنسبة 38 في المائة ومن متاجر خارج البلاد كذلك.