ترامب اعترف أمس الثلاثاء، أن "هذه الوظيفة ضخمة هائلة" ثم سارع مستدركاً ربما من باب المكابرة، ليقول "لكنها لن تطغى عليّ"، لكن المؤشرات لا تطمئن، وما تخشاه أوساط أميركية عديدة هو ما إذا كان ترامب الرئيس مُصرّاً على ممارسة مهامه بأساليب رجل الأعمال وعقلية الصفقات. إدارة الدولة غير إدارة الشركة التجارية، وحتى الآن لا يبدو أنه غادر الثانية للانصراف إلى الأولى. والخشية الأكبر ألا يكون قادراً أو عازماً على إجراء مثل هذه النقلة.
وعلى سبيل المثال، أكّد ترامب، أمس أيضاً، في لقائه مع هيئة تحرير صحيفة "نيويورك تايمز"، أنه لا يرى غضاضة في تسليم أولاده إدارة أعماله "وإيجاد صيغة معينة لفصلها عن عمله الحكومي"، من دون تحديد هذه الصيغة التي يشكك أهل القانون بأن تكون على القدر المطلوب من الشفافية. كما أعرب عن رغبته في "استضافة شركائه من رجال الأعمال في البيت الأبيض"؛ سابقة خطيرة قد تؤدي إلى تسخير الرئاسة لصالح أعماله.
عادةً، يقوم الرئيس بعد انتخابه بوضع استثماراته في صندوق مالي مؤتمن ومقطوع الصلة به، إذ لا يطّلع على مجرى عملياته الاستثماراتية قبل نهاية رئاسته. وهو تدبير يضمن عدم حصول تضارب بين المصلحة الشخصية ومصلحة الحكم، لكن الرئيس ترامب "غير ملزم بذلك"، كما قال.
ويعتبر الرئيس المنتخب نفسه بمثابة شاذّ عن هذه القاعدة، بل على قواعد كثيرة تعكسها قفزاته، إذ فجأة تراجع عن مواقف عدّة كان قد تعهد بتنفيذها لو فاز بالرئاسة، منها تراجعه، أمس، في مقابلته مع "نيويورك تايمز"، عن مواصلة التحقيق مع منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون في قضية الإيميل بما يؤدي بها إلى السجن.
مع أن البت بهذا الأمر ليس من صلاحية الرئيس بل يعود لوزارة العدل ومكتب "أف بي أي"، وبكل حال هو لم يتراجع "تعففاً"، بل على الأرجح لأن ملفاته، خاصة المالية، مليئة بالمخالفات، قبل أيام عقد تسوية بقيمة 25 مليون دولار، حول واحدة منها تتعلق بجامعة ترامب التي أقيمت ضدها دعاوى أمام المحاكم. كما اعترف بأنه ارتكب مخالفات في مؤسسته الخيرية، إذ استعان بماليتها لتسديد فواتير أتعاب قانونية. وأخيراً، انتقل من كسر الأنظمة إلى كسر الأعراف الدبلوماسية بترشيح صديقه زعيم "بريكست" ليكون سفير بريطانيا في واشنطن، خطوة أثارت كثيراً من الإحراج، خاصة تجاه السفير البريطاني الحالي في واشنطن.
وإذا كانت مواقف ترامب قد أثارت الكثير من علامات التعجب، فإن تعييناته قد طرحت الكثير من علامات الاستفهام، خاصة المتعلقة منها بفريقه للسياسة الخارجية، وبالتحديد وزيري الخارجية والدفاع، فالأولى ما زالت في دائرة الخطر من أن يقدم على تسليمها إلى رودي جولياني، لو أصرّ مِتّ رومني على شروط، يقال إنه ربط موافقته بها وعلى رأسها أن يكون من صنّاع السياسة الخارجية الأساسيين مع الرئيس وليس منفذاً لها، خاصة أنه كما يتردد، يخشى من أن ينفرد مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين مع المخطط في البيت الأبيض ستيفن بانون، برسم التوجهات الخارجية.
رومني يجري دعمه بقوة ليكون بمثابة الضامن "للاعتدال" في هذا الحقل والقادر على لجم اندفاع فريق البيت الأبيض. وما يثير التحفظات أيضاً، خاصة لدى البنتاغون، أن تكون حقيبة الدفاع من نصيب الجنرال المتقاعد ماتّيس، ليس لعدم الكفاءة، بل خوفاً من أن يطغى الجنرالات على الإدارة وبما يسبغ على السياسة الخارجية لون القوة الراجحة على الدبلوماسية.
ولا تقتصر الخشية على هذا الجانب في المجال الخارجي، بل أيضاً على تعيينات أخرى حصلت اليوم، وأخرى يجري التمهيد لها، كاختيار حاكمة ولاية ساوث كارولينا، نيكي هايلي كسفيرة لواشنطن في الأمم المتحدة، ربما يكون القرار قد لاقى بعض الترحيب، من باب أن المذكورة ناجحة كحاكم ولاية، لكن درايتها في الشأن الخارجي موضع شك، إذ إن ردها باسم الجمهوريين على خطاب الرئيس باراك أوباما السنوي في يناير/كانون الثاني الماضي كان تكراراً للمعزوفة التقليدية المتوارثة، قائلة "كان المطلوب أن نعقد اتفاقات تحظى بالترحيب في إسرائيل وليس في طهران" في إشارة إلى الاتفاق النووي.
الأغرب من ذلك أن الرئيس المنتخب ينوي تكليف صهره جارد كوشنر، بمهمة المبعوث الخاص في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، كما أشار في مقابلته، أمس، فقط لأنه زوج ابنته، ويرى أن يهوديته تؤهله لهذا الدور.
إلى ذلك، ذكرت مصادر أن منسق الرباعية توني بلير التقى مع كوشنر، خلال زيارته قبل أيام واجتماعه مع ترامب. وسبق أن سرت إشاعات بأن الصهر يتجه لتسلم دور في البيت الأبيض، وعلى إثر الاعتراضات التي أثارها هذا الاحتمال، يبدو أن الرئيس المنتخب وجد دوراً آخر لصهره لا يثير الاحتجاج ويسد زاوية شكلية لا يبدو أن ترامب سيعطيها الجدية اللازمة رغم إعرابه عن أمله بالتوصل إلى تسوية فلسطينية – إسرائيلية.
هذا المزيج من الزئبقية والفردية والعائلية، والذي لا يبدو أن محاولات الاحتواء نجحت في استيعابه بعد؛ يرخي بظلاله على الوضع المترقب وبحذر شديد، في واشنطن.