كثيرة هي المفاجآت التي تحملها السياسة الحزبية الداخلية في إسرائيل، وأكثر منها علامات الدهشة، سواء كانت حقيقية أم مفتعلة، يصحبها عادة ترداد مقولات بأن المكتوب يقرأ من عنوانه، أو وفق التعبير العبري "العنوان كان على الحائط". وينطبق هذا بشكل خاص على فوز أفي غباي، يوم الاثنين، برئاسة حزب العمل، وتغلبه على عمير بيرتس، ومن أيّده في الجولة الثانية من أقطاب حزب العمل المعروفين تاريخياً.
يمكن قراءة هذا الفوز، المفاجئ فعلاً، بالنسبة لمن كان خارج اللعبة الانتخابية، بمعنى من لم يكن مشاركاً نشطاً في المعركة الانتخابية لحزب العمل، من عدة زوايا. كما يمكن نسب هذا الفوز لعدة أسباب وتحولات في المجتمع الإسرائيلي عموماً وفي الشيفرة الوراثية لحزب العمل على نحو خاص.
لم يؤخذ تصريحه هذا على محمل الجد حتى في أوساط حزب العمل، لأن الرجل لم يكن "وضع قدمه بعد" في مقر الحزب المركزي، ناهيك عن فروعه المختلفة وتعقيدات التشكيلات والقطاعات المختلفة المكونة للحزب، التي يجهلها غباي ولا تعرف عنه بدورها شيئاً. لكن غباي قاد حملة جدية وقام بجولات في كل أنحاء إسرائيل، ليتمكن من ضمّ 5000 إسرائيلي جديد إلى عضوية حزب العمل. وأظهر بذلك قدرةً على الإتيان بجماهير جديدة إلى الحزب، وهي قدرة فقدها رموز الحزب السابقين، بدءاً برئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك، ومروراً بعمير بيرتس، خصم غباي المهزوم يوم الاثنين، والجنرال عمرام متسناع، وحتى الصحافية الشعبوية شيلي يحيموفيتش، وانتهاء بالزعيم المهزوم في الجولة الأولى من هذه الانتخابات، يتسحاق هرتسوغ. هكذا أعاد تنشيط حزب العمل الذي أسس الدولة وشاخ مع مرور الوقت، حتى بات مع سطوع نجم رئيس حزب "ييش عتيد"، يئير لبيد، وكأنه "الرجل المريض" في المشهد الإسرائيلي، والذي ينتظر الجميع فرصة تقاسم أصوات ناخبيه.
وإن كان لا يمكن في هذه العجالة الوقوف عند أسباب انهيار حزب العمل انتخابياً على مر العقدين الأخيرين، على الرغم من فترة الحكم القصيرة لإيهود باراك بين عامي 1998 و2001، إلا أنه يمكن الانطلاق من القول إن التفاف أعضاء حزب العمل حول مرشح مجهول، ومن خارج صفوف الحزب، بل شخص أعلن أنه صوت لحزب "الليكود"، وتربى في بيت شرقي "ليكودي" تقليدياً، يدل على عمق أزمة القيادة في الحزب، من جهة، وعمق النفور من لعبة المحاور والمعسكرات والاحتراب الداخلي في حزب بات يعرف بأنه "يأكل قادته"، بعدما غيّر منذ عام 1996 وحتى اليوم، 9 رؤساء على مدار 22 عاماً.
كما يعكس انتخاب غباي في الوقت ذاته انكساراً داخلياً في شيفرة الحزب لجهة فقدان الثقة بالنفس وبالقدرة على الانتصار على نتنياهو، من دون شخص يكون قادراً على مد جسور مع شرائح اجتماعية يمينية معتدلة وأخرى وسطية، سواء كانت شرقية أم غربية الأصول، وجدت في حزب "ييش عتيد" بقيادة لبيد ملاذاً لها.
والواقع أن فوز غباي يرتبط أكثر بالأبعاد الاجتماعية والثقافية منه بالأبعاد السياسية والأمنية، خاصةً أن هناك نوعاً من الإجماع في إسرائيل بأن التسوية السياسية مع الفلسطينيين لا تزال بعيدة المنال، حتى بالنسبة لمن يعتقدون بوجوب الانفصال عن الفلسطينيين ولو من باب ضمان أغلبية يهودية.
ففي المجال السياسي، لا يحمل غباي عقيدة واضحة ولا مواقف أساسية جوهرية معلنة تتجاوز مقولات وجوب الانفصال عن الفلسطينيين والتوصل إلى تسوية تضمن المصالح الأمنية لإسرائيل. وهو قول يمكن له أن يصدر عن ليكودي "معتدل"، أو عن "عمالي" مخضرم يردد خطاب حزب العمل التاريخي بتسوية وفق خطة الجنرال الإسرائيلي، يغئأل ألون، التي تحتم بقاء سيطرة إسرائيل الأمنية والعسكرية في غور الأردن، وهو مطلب وشرط يتبناه اليوم نتنياهو.
أما في البعد الاجتماعي والثقافي، فلا شك في أن هوية غباي الاجتماعية والعرقية ممزوجة بسيرته الذاتية الشخصية، وتوفر بدورها تفسيراً ولو جزئياً لتمكنه من التغلب على المرشح الشرقي المنافس له، وهو عمير بيرتس، بفعل الفوارق الجوهرية في هذه الهوية الشرقية لكليهما، مع أن الاثنين من أصل مغربي. فعمير بيرتس جاء إلى فلسطين من المغرب عندما كان في السادسة من عمره، أما غباي فولد عام 1967 لأبوين من أصل مغربي هاجرا إلى فلسطين أيضاً في أواسط الخمسينيات، لكنهما استقرا في حي البقعة الفلسطيني في القدس الغربية. وترعرع بيرتس في بلدة سدروت في النقب، وكان منذ صباه ناشطاً في حزب العمل ومتفرغاً فيه. وسبق لحزب العمل أن تصدى لاتهامات بالعنصرية ضد الشرقيين، من خلال ترشيحه بيرتس لرئاسة بلدية سدروت في أوساط سبعينيات القرن الماضي. وبهذا المعنى، فإن بيرتس الذي أخذ فرصته أكثر من مرة لإحضار "جماهير جديدة لصالح حزب العمل"، فشل في ذلك لأن النظرة إليه ظلت في أوساط المجتمع الإسرائيلي، فوقية، لم تتغير حتى عندما انتصر على شيمون بيريز عام 2005. فقد مثّل بيرتس في نظر كثيرين، خاصة الشرقيين من المجتمع الإسرائيلي، الرجل الشرقي المعجب بالسادة البيض، والذي باع روحه لحزب العمل التاريخي.
ويفسر هذا أيضاً هوية من صوتوا له في حزب العمل وانضموا إليه في الجولة الثانية. وفيما وقفت مؤسسة الحزب "الأشكنازية" والتقليدية مع بيرتس، حظي غباي بتأييد القطاع الشاب في الحزب حتى برموزه "الأشكنازية" الجديدة التي تمثلها أكثر من غيرها كل من شيلي ييحيموفيتش، والنائبة الشابة من قادة حركة الاحتجاج الاجتماعية، ستاف شفير، إلى جانب إيهود باراك. وكل هؤلاء وصلوا إلى مواقع بارزة في حزب العمل من خارج المؤسسة الحزبية، ولم يسبق لهم أن كانوا ناشطين فيه. أما قدامى الحزب ومخضرموه مثل الزعيم المهزوم يتسحاق هرتسوغ، ونجل رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، حاييم بارليف، والجنرال السابق، رئيس الحزب الأسبق عمرام متسناع، فاصطفوا جميعاً وراء بيرتس.
في مثل هذه الظروف يصبح فوز غباي بزعامة حزب العمل، فرصة ربما لم يحظ بها الحزب منذ عقدين، للعودة إلى صدارة المشهد الإسرائيلي كحزب ينافس على قيادة الدولة وليس على حصته وموقعه في حكومة يقودها "الليكود". لكن نجاح غباي في استغلال هذه الفرصة أم لا، يبقى أمراً لا يمكن التنبؤ به، خاصةً في حلبة حزبية وخريطة سياسية مليئة بالمفاجآت والتقلبات.