هيكل من فاروق إلى السيسي… صناعة الحدث وروايته

القاهرة
7A068292-4EA5-4AA1-AD35-5D8A7ABAC4BB
ياسر غريب

كاتب مصري. حاصل على دكتوراه الألسن في الأدب العربي ونقده. من مؤلفاته: "استبداد التراث: قراءات صادمة في ثقافة الإلف والعادة"، و"ديوان شهاب الدين بن العليف المكي: تحقيق ودراسة"

18 فبراير 2016
88545B3A-8970-4C36-BACA-0129C8C32315
+ الخط -


كان محمد حسنين هيكل منذ بداياته المبكرة مفتوناً بالتقرّب من الزعماء والحديث عنهم باعتباره عنصراً مقرّباً، أو عنصراً فاعلاً في الأحداث، لذلك حظي سرده بقدر كبير من اهتمام من يريدون أن يركنوا إلى تفسيرات تروي الأحداث بصورة فنية. موهبة الحكي عند هيكل بدأت مبكراً، وأسهمت في "فرقعات" سياسية مبكرة، عُرف من خلالها أنه الصحافي الذي يقابل من لا يقابله أحد. يتحدث هيكل وهو لا يزال في العشرينيات من عمره، عن مشاركته في تغطية بعض معارك العلمين لصالح "الإجيبشن غازيت"، ورؤيته للقائد البريطاني الشهير برنارد مونتغمري من بعيد (بعد ذلك بربع قرن يروي هيكل أنه يلتقي بمونتغمري ويدور بينهما حوار).

أيضاً لا تخلو أحاديث هيكل من التعرض لشخصيات تاريخية مثل النحاس باشا وعائلات رجال الوفد وعائلة الملك فاروق، عبر تفاصيل دقيقة لا يعلمها إلا هو. وفي خارج مصر استثمر هيكل موقعه المرموق والتقى العديد من زعماء العالم، وكتب تحليلاته الخاصة عنها، ودوّن حوارات جانبية بينه وبينهم بصورة فنية، بحيث يكون من الصعب تكذيبها أو تصديقها. وكان لبعض الصور التي التقطها في رحلاته مع تلك الشخصيات المهمة أثر في تمرير حكاياته، مثل مجموعة الصور التي نشرها في كتاب "أحاديث آسيا" مع رئيس وزراء الصين شو إن لاي، وملك كمبوديا الأمير نوردوم سيهانوك، ورئيس زائير الجنرال موبوتو، ورئيس وزراء اليابان تاناكا، وزعيم بنغلاديش شيخ مجيب الرحمن، ورئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، والرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو.

بعد ثورة يوليو/تموز 1952، ارتبط هيكل بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بصورة كبيرة، لدرجة أنه حرّر كتاب "فلسفة الثورة" لعبد الناصر، والذي صدر عام 1953. أيضاً تناسب مع الفترة الناصرية أن يرتد هيكل إلى عصر الملك فاروق ويؤرخ سلبيات حكمه في سنواته الأخيرة التي سبقت الثورة، وهو الذي كان يمدحه في عيد جلوسه على العرش بمقاله الشهير "في يوم عيدك يا مولاي"! والذي لقّبه فيها بـ"الملك الدستوري"، ووصفه بأنه محبّ لشعبه عاشق لبلاده. وهو القائل لفاروق: "يا مولاي... هذه ثماني سنوات وأنت وهذا الشعب معاً، تقتسمان السراء والضراء، وتسيران في طريق الحياة بأزهارها وأشواكها، وستبقيان معاً إلى الأبد لأن هناك رباطاً من الحب يوثق بينكما".

وكان لارتباط هيكل بعبد الناصر انعكاس طبيعي على علاقة هيكل بمحمد نجيب الذي سرعان ما أزيح عن قيادة الثورة، فقد أشاع الصحافي الناصري الهوى، عدم صلاحية نجيب لقيادة البلاد، بحجة أنّ أم نجيب سودانية الجنسية، مشيراً من جانب خفي إلى فكرة العمالة، حين ذكر أن الإنجليز كانوا يبحثون عن رجل تجري في عروقه دماء سودانية أو تركية، لكي يضعوه على رأس السلطة في مصر بدلاً من الضباط الشبان أعضاء مجلس قيادة الثورة.

إضافة إلى ذلك وقعت أزمة بينهما لاحقاً بسبب عدم صحة الأخبار عن نجيب. ففي كتابه "كنت رئيساً لمصر"، كتب محمد نجيب قائلاً: "ادعى هيكل عليّ بالباطل، في كتابه "ناصر والعالم"، أنني تسلمت من المخابرات الأميركية ثلاثة ملايين دولار، هي التي بني بها برج القاهرة... قرأت ما كتبه هيكل وضحكت، إلى هذا الحد يمكن أن تصل الفبركة بكاتب؟ إلى حد التلفيق والافتراء... لكني أدركت للوهلة الأولى من قراءة هذه الرواية الباطلة أن الكذب لا أقدام له... فأنا لم تكن لي صلة بهذا الموضوع لسبب بسيط هو أنني كنت معتقلاً يوم وصل هذا المبلغ إلى مصر".

يضيف نجيب: "أردت أن ألقن هيكل درساً علنياً يوجعه، ورفعت دعوى ضده أمام محكمة جنايات الجيزة، وعرف هيكل بالدعوى وطلب من المحامي أن يتوسط عندي لسحب الدعوى فقلت على شرط أن ينشر بياناً في الأهرام والديلي تلغراف والنهار اللبنانية يعتذر فيه عما نشره ويكذبه". وقد وافق هيكل ونشر البيان في "الأهرام" يوم الجمعة 2 يونيو/حزيران 1972".

اقرأ أيضاً: وفاة الكاتب والسياسي المصري محمد حسنين هيكل

الفترة الناصرية بدءاً بالثورة وتوجيه بعض قادتها والتنظير لها، كانت المشروع الكبير الذي افتتحه هيكل لدرجة وصفها بعضهم بالمبالغة، فهو يبحث عن دور بطولي عن طريق شخصنة أحداث يوم الثورة: "اختير اللواء الأكبر سناً والأكثر خبرة محمد نجيب بواسطة الضباط الأحرار ليقوم بمهمة الرئيس الصوري للثورة، كان من المحتمل أن يلقى قبولاً أكثر من الشعب المصري، أخذت نجيب في سيارتي، كان الجو مظلماً، كانت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل وكانت القاهرة مظلمة تماماً، وكان الجو متوتراً، بينما كنا نقترب من المركز الرئيسي للقيادة فشعرت بتحركات بعض القوات وكان هو مندهشاً تماماً وقال لست أدري ماذا فعلوا ولكن بإمكانهم أن يقودوا البلد نحو كارثة، على أي حال إننا الآن مخولون، سأذهب وأرى إذا كان الوضع سيئاً وإذا كانوا يسيئون التصرف فسأخبرهم بأن يعودوا إلى منازلهم وكأن شيئاً لم يكن".

ويستفز هذا السرد اللواء جمال حماد أحد قادة الثورة، فيصفه بالكلام الخيالي، قائلاً: "هذا كلام خاطئ ولم يحدث أن هيكل جاء بمحمد نجيب إلى مقر رئاسة الجيش، بل هو الذي جاء بنفسه وبعربته الخاصة وقوبل من جميع ضباط القيادة بالترحيب والاحترام وتولى مسؤوليته كقائد للثورة، ولم يكن رئيساً صورياً لها، ولم يحدث أن أصدر اللواء محمد نجيب الذي قاد الثورة في أحرج أوقاتها الأقوال التي نسبها إليه هيكل".

وتبقى الذاكرة الناصرية مرتبطة بمؤلفات هيكل وحواراته وتحليلاته، حيث كان كاتبها ومحررها الأول. هيكل هو من خفف من هزيمة 1967 وأطلق عليها "النكسة"، وهو من هنْدَس عملية امتصاص الغضب الشعبي آنذاك عبر تحريره لخطاب التنحي العاطفي لعبد الناصر.

مع رحيل جمال عبد الناصر المفاجئ، مرّت علاقة هيكل بأنور السادات بعدة مراحل، فقد ظلّ في موقعه رئيساً لتحرير "الأهرام"، ودعم السادات في ما سُميّ بثورة التصحيح في 15 مايو/أيار 1971، والتي أطاح فيها السادات برجال جمال عبد الناصر الذين لم يقتنعوا به رئيساً لمصر. وأوجدت علاقة هيكل القريبة بعبد الناصر أعداء كثيرين من مراكز القوى في المحيط الناصري، لذلك ساند هيكل السادات بكل ما أوتي من قوة. وكتب آنذاك: "كان السادات هائلاً في هذه الساعة الحاسمة من التاريخ بأكثر مما يستطيع أن يتصوّر أحد، كانت قراراته مزيجاً مدهشاً من الهدوء والحسم، هذه المرحلة هي التي ستجعل من أنور السادات وبشكل قاطع قائداً تاريخياً لشعبه وأمته، لأن القيادة التاريخية مرتبة أعلى بكثير من الرئاسة مهما كان وصفها".

ذاتية هيكل وصراعاته مع خصومه في قضية مراكز القوى، باعتبار السادات زعيماً شعبياً، لم تكن تتناسب مع انقلابه النفسي على السادات المنتصر في أكتوبر/تشرين الأول والمنتفخ سياسياً، فانتقد بعض سياساته الخارجية، وتوجّهه نحو الولايات المتحدة على حساب الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك سبباً في إقالة هيكل من "الأهرام" في 2 فبراير/شباط 1974، ووقتها قال هيكل في تصريح صحافي: "إنني استعملت حقي في التعبير عن رأيي، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته، وسلطة الرئيس قد تخوّل له أن يقول لي اترك الأهرام، لكن هذه السلطة لا تخوّل له أن يحدد أين أذهب بعد ذلك، القرار الأول يملكه وحده، والقرار الثاني أملكه وحدي"، مشيراً إلى رفضه منصب مستشار الرئيس الذي منحه السادات له في تغطية دبلوماسية لإقالته.

وقد احتد غضب السادات وقال في 1981: "ليس من حقه كصحافي أن يناقش القرار السياسي، فتلك مسؤولية الرئاسة". ثم أمر باعتقاله في سبتمبر/أيلول، ولكن لم يلبث أن اغتيل السادات في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه. وخرج هيكل ليؤلف كتابه "خريف الغضب" الذي يدين تعامل السادات في قضية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.

ومع عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك، تم ابعاد هيكل بصورة مؤلمة طوال ثلاثين عاماً، ولم يتحدث بلسانه ولم يستطع دخول مكتبه في "الأهرام" مرة ثانية. وبعد ثورة يناير 2011 كتب هيكل عن مبارك ومحاكمته: "التهم التي وُجهَت إليه لم تكن هي التهم التي يلزم توجيهها، بل لعلها الأخيرة في ما يمكن أن يوجَّه إلى رئيس دولة ثار شعبه عليه، وأسقط حكمه وأزاحه. والمنطق في محاكمة أي رئيس دولة أن تكون محاكمته على التصرفات التي أخلّ فيها بالتزامه الوطني والسياسي والأخلاقي، وأساء بها إلى شعبه، فتلك هي التهم التي أدت للثورة عليه"!.

لكنه في سنة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي ظهر مرة أخرى ليعرض نفسه محللاً للأوضاع ومعبّراً عن أزمة النظام الحاكم وعدم إدراكه لما يواجهه، من دون أن يسقط في فخ المعارضة المباشرة، كما كان حاله دائماً، فعلى الرغم من أنه صرّح قبيل 30 يونيو/حزيران بضرورة إعطاء مرسي و"الإخوان" فرصة جديدة، فقد صرح بعدها بأن الانقلاب أنقذ البلاد من مصيبة كبرى. ويذكر أن مرسي هو الرئيس الوحيد في التاريخ الذي لم يمدحه هيكل.


اقرأ أيضاً: مصر: محمد حسنين هيكل يصارع المرض

ذات صلة

الصورة
تطالب جمعيات رعاية الحيوان بتعامل رحيم مع الكلاب (فريد قطب/الأناضول)

مجتمع

تهدد "كلاب الشوارع" حياة المصريين في محافظات عدة، لا سيما المارة من الأطفال وكبار السن التي تعرّض عدد منهم إلى عضات استدعت نقلهم إلى المستشفى حيث توفي بعضهم.
الصورة
جنود صوماليون خلال تدريبات في مقديشو، 26 مايو 2022 (إرجين إرتورك/الأناضول)

سياسة

تبادلت مصر وإثيوبيا رسائل تحذير عسكرية أخيراً، على خلفية الوضع في الصومال وإقليم "أرض الصومال"، مع وصول سفينة محمّلة بالأسلحة من القاهرة إلى مقديشو.
الصورة
طلاب أمام جامعة الأزهر في القاهرة، في 2 يونيو 2016 (Getty)

مجتمع

قررت جامعة الأزهر المصرية، الثلاثاء، وقف أستاذ العقيدة والفلسفة بقسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية في فرع الجامعة بالقاهرة، د. إمام رمضان إمام، عن العمل.
الصورة
جواز سفر مصري - مصر (إكس)

مجتمع

أُحيل محامٍ مصري إلى المحاكمة الجنائية بتهمة تزوير محرّرات رسمية وجمع أموال من عائلات سوريّة في مصر، وذلك في مقابل إتمام إجراءات الجنسية المصرية المنتظرة
المساهمون