واسودّ وجه الرغيف السوري

03 ابريل 2015

سورية تعد الخبز في معلولة في 1956 (Getty)

+ الخط -
بعد أربع سنوات من الحرائق، صار رغيفنا أسود، وطعمه مرّاً. هذا ليس كلاماً مجازياً، أو صيغ مبالغة، أو تشابيه كما يحلو للغتنا العربية أن تقدّم نفسها، بل حقيقة صارخة، لا يمكن مواربتها أو تجميلها.
عندما تصل الأزمة الحياتية إلى الرغيف، بعد أن تكون قد مرّت بالسلع الأخرى الضرورية للمعيشة بحدودها الدنيا، فهذا مؤشر أحمر بلون الجمر وحرقته. لم تعد الأزمات في سورية تقتصر على مناطق العمليات الحربية، أو أماكن الحصار، فالشعب السوري في كل المناطق صار محاصراً في سجن كبير، تديره وتمسك المقادير فيه قوانين الحرب المفتوحة على احتمالات الموت بأبشع أشكالها.
منذ نحو شهر، بدأت أزمة الخبز في سورية، وازدهرت معها الشائعات التي تبرر أسباب الأزمة وتشرحها، وترمي بالمسؤولية فيها على عاتق الفساد الذي صار الحديث عنه بالنسبة للمواطن السوري، الغارق في عملية التغريب والتجهيل، صار من الأقوال التي تعزز فكرة القدر، وما تحمله من قدرة سحرية على تركين النفوس وترويضها وقبولها بالموجود، مع قنص أي محاولة للرفرفة في أجنحة الخيال، إذ ليس هناك احتمال آخر لمعيشة الحياة. لذلك، علينا القبول بالموجود: جود بالموجود. وها هي الحكومة تجود على الشعب بخبز اسودّ وجه رغيفه وجفّ، حتى صار مثل نشارة الخشب، تجرح الحلق وتدمي المريء في طريقها إلى بطون خاوية، فقدت القدرة حتى على الصراخ. والأسباب متنوعة، كما تقول الشائعات، فربما الخميرة فاسدة، وربما الدقيق مخلوط بالنخالة أو بالشعير، وربما.. وربما. لعن الله الفساد والمفسدين، هذا ما يقول لسان حال السوري المغلوب على أمره، ويقول أيضاً: بينما تتعرض البلد لمؤامرات الكون، والحكومة مشغولة بردّ الاعتداء عن أراضينا، هناك أفراد بلا ضمير يستغلون الأزمة ويتاجرون بالبلاد والعباد، فيكتفي المواطن السوري، المغلوب على أمره، والمغرّب عن وجوده، بأن يلعن الفساد والمفسدين، ثم يزدرد خبزه الأسود ويغص بمرارته، متشاغلاً عن الحقيقة، وفهم الظواهر وما خلفها.
لكن. يعرف هذا المواطن المغلوب على أمره كيف يتمثّل اللقمة المباركة التي تقدّم إليه معمّدة بالدم، ويشحذ عواطفه ومشاعره وأفكاره، ويصفن في الوضع العام، المحلي والإقليمي والعالمي، ويتذكّر الله، ويستعيد ما حفظه من نصوص، وما علق في ذاكرته من وصايا، وينفخ في نار الثأرية والضغينة على من ليسوا من جماعته. وبالتالي، هم المسؤولون عن دمار البلد. هكذا هذه الحرب اللعينة حوّلت المجتمعات إلى تجمعات من الأفراد غير مستقرة وفاقدة للأمان، فلجأت إلى الأشكال الحياتية الجماعية التي كانت قبل الدولة، مجتمعات تدير حياتها وفق قوانين العشيرة والقبيلة والطائفة، وأرسخ دعائمها هي الدعائم الطائفية التي تغلغلت في التفكير الفردي والجمعي، حتى صارت لسان حال الغالبية، لا فرق بين عامة الشعب أو النخبة بمختلف أشكالها، حتى النخب الثقافية لم تبرأ من هذه اللوثة الخبيثة.
 
لم يكن ينقص المواطن السوري المنتهك، والملقى في أتون الحرب منذ أربع سنوات ونيّف، إلاّ أن ينشغل بهمّ إضافي وقضية تجعله يشعر بوجوده وبقيمته، وبأن عليه واجباً وطنياً مقدساً هو أن يكون له رأي مما يجري في العالم حوله، هي القضية اليمنية وعاصفة الحزم، ولن تخذله الحكمة، المبنية على تاريخ من الحفر في وجدانه بأننا أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وبأن القضية الفلسطينية هي قضية الوجود الأولى، حتى صارت وشماً على جيناته. لن تخذله الحكمة والوطنية المقدسة وقيم المقاومة والممانعة من أن يربط كل ما يجري هناك بقضية فلسطين، وبالصهيونية التي هي أساس كل أدوائنا وأمراضنا. وبالتالي، يقتضي الموقف الشهم الفروسي الوطني الممانع الواعي النزيه أن توضع الأمور في نصابها، فإيران عدوة عدونا، وبالتالي هي صديقتنا وداعمة قضايانا. وفي المقابل، هناك أصوات أخرى للسوري نفسه، بعد أن فصمته الحرب إلى اثنين، يرى في إيران الطرف الذي ساهم عن سبق إصرار في قتل الشعب السوري، ويرى فيها صاحبة المشروع "الفارسي، الصفوي" كما شاع ولُقّب، وهي تسعى إلى إقامة مشروعها الخاص، مستغلة الوجود "الشيعي" في المنطقة، وأن تحالف القوى التي تقصف اليمن هي الحريصة على دماء المسمين.
لم ينتهِ الأمر عند هذا التفصيل والتصنيف، بل تماهي القومي بالطائفي والديني، وانشطر الموقف بين "شطري السوري" إلى موالٍ لتركيا والسعودية من جهة، وموالٍ لإيران من جهة أخرى، والدافع الحارّ المتوهج خلف الموقفين هو" سني" و"شيعي". يحتدم النقاش، وتتصعّد المبارزة بسيوف الكلام، ويبدأ التخوين والشيطنة، ويتهم كل طرف الآخر بعمالته وخيانته للوطن. إيران" الشيعية" هي الصديق المخلص الشهم النبيل المدافع عن وجود الشعب العربي المناهض لإسرائيل، المهدد لها ولأمنها، الداعم للشعب الفلسطيني، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تركيا "السنية" هي الأمل والمنقذ للشعب السني الذي يتعرض للإبادة، وهي الداعم الأكبر لقضايا الشعب السوري، مع السعودية والدول الحليفة لهما. وعليه، يزداد الشعب السوري المنقسم على نفسه إدراكاً لذاته المتمثلة بتبني المواقف المبدئية من الأحداث الجليلة التي تعصف بالمنطقة، فتصير هذه الأحداث شغله الشاغل، وتحتل ساحة وعيه الحريص على صون المقدسات وحمايتها، والذود عن الجماعة، ويصبح الرغيف الأسود المرّ وجبة الحياة في زمن "التطهير" و"التحرير"، في زمن المشاريع الدولية والإقليمية التي تتزود بوقودها من نفط أراضينا ومن أجساد أبنائها.
المريع الأكبر هو تبني شريحة لا بأس بها من النخب لهذا الخطاب التحليلي، وجنوحها نحو الدوافع العاطفية في إعلان موقفها، عاطفية قاتلة اسمها "سني" "شيعي". بينما الشعب السوري يُدفع في رحلة التهجير التي تطول وتطول، ويدوّن التاريخ تغريبته المعاصرة، وتتنازع أراضيه أعلام ورايات وصور وزعامات، وتتهاوى أحلامه بدولة مدنية، كما صرخ في البدايات، عندما كانت أوائل المعاني تتشكل. عندما لم يكن الرغيف أسود، بل كانت تضحك له صباحاً، وهو يتضوّع برائحة الحياة أكثر الوجوه عبوساً. هل نسي الشعب السوري رغيف الخبز بطعم الكرامة أمام قضية صارت هي الأولى والأوْلى بالاهتمام، الصراع "السني الشيعي"؟ يا لهول الكارثة المقبلة علينا.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن