28 مايو 2024
وجهة نظر عربية في المسألة التركية
مهنا الحبيل
منذ انهيار الدولة العثمانية، الفكري والسياسي، وانحطاطها، قبل سقوطها الأخير في الأقاليم العربية، بدأت تجاذبات التيارات العربية، والتي تداخلت بصورةٍ كبيرةٍ في مساحة توظيف المستعمر الأنكلوسكسونية، أو الفرنكوفونية، وإدارته، وهي المساحة التي سمح بها أو انتزعها الفكر العربي المعاصر منه، لكن التأثير بقي قائماً ضد الإرث العثماني القديم.
والصدمة التي حلّت بمشروع الجامعة الإسلامية، المقابل لمشروع القومية العربية، لا تمثل قراءةً فكريةً دقيقةً لتحرير مواطن النزاع بين الفكرة الأممية الإسلامية والأرومة القومية الخاصة بالعرب، وتمحورها حول النهضة.
سنلاحظ هنا مسألة مهمة للغاية، وردت في شهادة الأمير شكيب أرسلان، أو في معاناة جمال الدين الأفغاني. هذه القضية أن الراعي لفكرة الجامعة الإسلامية، وهي الأستانة (عاصمة الدولة العثمانية) وتعليمات السلطان عبد الحميد، لم تكن تعطي أي مؤشراتٍ مقبولةٍ باهتمامها، بنهضة الأمة نحو تصحيح الخطيئة التاريخية التي تعامل بها العثمانيون، ورفضهم معادلة الإصلاح السياسي وتأثيره في المنطقة العربية الذي قاد إلى التخلف، وردّات الفعل على صورة الإسلام الذي تمثّل في نموذج التتريك الثقافي. بل كان هدف الأستانة أمنيا سياسيا بحتا بحسب إشارات الأمير الواضحة، في أسطر عديدة، في كتابه "سيرة ذاتية"، والذي أودعه في مكتبة القدس، وأوصى أن يُنشر بعد وفاته، وهو ما قامت به دار نشر في بيروت، وهي النسخة التي قرأتها.
لم تحظ مذكرات الأمير شكيب، حتى اليوم، بما يكفي من تداول حواري لكل المثقفين العرب، لا يقف عند الأشقاء من المسيحيين العرب الذين حرص الأمير، في صفحاتٍ عديدة، على أن يوضّح لهم موقفه من جرائم جمال باشا السفّاح. ولكن لكل التاريخ الثقافي العربي، لكلنا كذات ثقافية عربية، لماذا أخطأت المسيرة العربية بين المشروعين، وكيف نستفيد اليوم منها، ليس لعلاقةٍ مع أستانة جديدة، فهذا الأمر، مهما صعدت تركيا المعاصرة، فإن تحوّلها إلى إمبراطورية وهم كبير.
والغريب أن حديثي المكثّف مع الأشقاء من حزب العدالة والتنمية في تركيا، أو رفقاء تجربة إنشائها، كانت تُطرح فيه بوضوح مساراتٌ تُغيّب، اليوم لدى مريدي التجربة العرب، أن هذا الحديث كان يتفق مع أن التجربة الحديثة لا تسعى إلى عودة سيناريو إمبراطوري، ولا تدعو العرب إلى الإسلام العثماني، وإنما باتحاد شعوب الشرق، مع تجربتهم الصاعدة في ذروة تفوّقها في العام 2010، ولنكوّن معاً عهداً شرقياً جديداً، يقوم على رد الاعتبار للروح الإسلامية، برؤيةٍ نهضويةٍ معاصرة، حرية الإنسان وتقدّمه، هي المهمة الوطنية والإنسانية المشتركة في الشرق. والعبور إلى المصالح ليس موقفا انتهازياً، وإنما المقصد منه أن ينتهج حزب العدالة والتنمية، عبر البراغماتية الواقعية، شبكة مصالح لصالح تركيا مع دول الشرق كلها، تُفرض عبرها قاعدة تحييد نسبي للتدخل الغربي، وتُقيم قواعد تفاهم مع فكرة قدماء الإصلاحيين الأتراك الذين زهد في رأيهم السلاطين، فبنوا حصناً من الانكشارية العسكرية التي عادت تضرب سلاطينَها ورجالَها، بعد أن نبذت الأستانة العقل العثماني القديم الذي كان يحاول إرشادهم منذ حاجي خليفة (الجغرافي والمؤرخ العثماني المتوفى في 1657م). بل إن أصدقاء من ذوي الخلفية الشرعية، لا العلمانية، في حزب العدالة والتنمية، كانوا يقولون لي، في حوارنا، ضمن بحثي في التجربة التركية في العام 2013، إن "جزءاً من مشروعنا يعتمد على التطوير التقني للدولة الحديثة التي ورثناها عن أتاتورك، وأننا نعتبره تراثا قوميا نهضويا". ليس كل مشروع أتاتورك بالطبع، ولا روح كراهيته الإسلام، وإنما الواقع التركي الداخلي، وهذا له أيضا ذاكرة صعبة في العهد العثماني مع مسألة العلم والتقدم، والمواطنة وصناعة الدولة الحديثة، ولا تزال الغالبية الكبرى من الأتراك تحمل لمشروع أتاتورك مشاعر إجلالٍ خاصة.
كانت هذه البنية مناسبة جداً في إطارها العربي، واضحة تماما، تقيم جسر شراكة لفكرة النهضة ذات الروح الإسلامية التي حرّرها منظّر التجربة الفكري، بغض النظر عن موقعه السياسي القديم والجديد، أحمد داود أوغلو، وتُشجع على إيجاد ثقة بين العرب والأتراك، تحترم اختلاف رؤاهم ولغتهم، وتعزّز رابطتهم الإسلامية الرسالية في مسار الأخلاق، والتعاون النهضوي، وتقديم تركيا بقناعة عربية ومسلمة، لا أيديولوجية حركية، كشريك حضاري للبناء الشرقي الجديد.
ولذلك، تفاعل بعض المثقفين العرب مع نظرائهم الإسلاميين، من اليساريين والليبراليين والقوميين، بتعدّد توجهاتهم مع التجربة، غير أن التطورات الضخمة، في الداخل التركي وما بعد الربيع العربي، قلبت الأمور كثيراً، وخصوصا بعد الرسائل الجديدة التي بعثها حزب العدالة، وكأنه يؤمن بإعادة تنظيم هذا التوافق، في ظل صعود شرس للتيار العثماني العربي الذي لا يقبل إطار تعاون مع تركيا المسلمة الحديثة، بميزان استقلال ومصالح، بل بولاء مطلق
لكل سياسات تركيا وشخصية رئيسها أردوغان، الذي لا يمكن أن يهمّش دوره التاريخي الضخم في التجربة الحديثة لتركيا، بغض النظر عن خلاف فكر النهضة الإسلامي والعروبي مع واقع مشروعه الجديد.
والغريب أن الزملاء الأتراك يُصرّون على أن القاعدة لم تتغيّر، كمفهوم لديهم، ولكن ما نراه أن القاعدة تتغير على الأرض والاحتقان العربي التركي يعود داخل تركيا وخارجها، فهل المسؤول عنه الثورة المضادة ومشروع أبوظبي - الرياض فقط؟
الحقيقة أن الأمر ليس كذلك، وأن تطوّر المشاعر السلبية في الشارع التركي الذي يزدحم فيه اللاجئون العرب، ولو كانوا يساهمون في اقتصاده، يمثل تحدّيا تاريخيا اجتماعيا كبيرا كشعوب لأمة الشرق، وكمتطلعين للخروج من محن الحروب والدمار إلى تحالف نهضوي مؤمل، وهذا الأمر لا يساعد فيه مطلقا سوق المصالح القائم في الحالة الإعلامية التركية الموجهة إلى العرب.
أكانوا عرباً أو أتراكاً ناطقين بالعربية، هناك أيضاً حاجز سميك لدى النفسية التركية مع العرب، والمهمة هنا أن يُعاد تأسيس المنتدى العربي التركي ليس عبر بروباغاندا العهد العثماني، ولا تفوّق العرق التركي، ولا عبر العنصرية العربية الحاقدة على ذلك الميراث، إنما لقيام علاقة فكرية صلبة وواقعية وأخوية، لا تُسقط المصالح ولا الاستقلال لكل شعوب الشرق والرسالة الإسلامية.
والصدمة التي حلّت بمشروع الجامعة الإسلامية، المقابل لمشروع القومية العربية، لا تمثل قراءةً فكريةً دقيقةً لتحرير مواطن النزاع بين الفكرة الأممية الإسلامية والأرومة القومية الخاصة بالعرب، وتمحورها حول النهضة.
سنلاحظ هنا مسألة مهمة للغاية، وردت في شهادة الأمير شكيب أرسلان، أو في معاناة جمال الدين الأفغاني. هذه القضية أن الراعي لفكرة الجامعة الإسلامية، وهي الأستانة (عاصمة الدولة العثمانية) وتعليمات السلطان عبد الحميد، لم تكن تعطي أي مؤشراتٍ مقبولةٍ باهتمامها، بنهضة الأمة نحو تصحيح الخطيئة التاريخية التي تعامل بها العثمانيون، ورفضهم معادلة الإصلاح السياسي وتأثيره في المنطقة العربية الذي قاد إلى التخلف، وردّات الفعل على صورة الإسلام الذي تمثّل في نموذج التتريك الثقافي. بل كان هدف الأستانة أمنيا سياسيا بحتا بحسب إشارات الأمير الواضحة، في أسطر عديدة، في كتابه "سيرة ذاتية"، والذي أودعه في مكتبة القدس، وأوصى أن يُنشر بعد وفاته، وهو ما قامت به دار نشر في بيروت، وهي النسخة التي قرأتها.
لم تحظ مذكرات الأمير شكيب، حتى اليوم، بما يكفي من تداول حواري لكل المثقفين العرب، لا يقف عند الأشقاء من المسيحيين العرب الذين حرص الأمير، في صفحاتٍ عديدة، على أن يوضّح لهم موقفه من جرائم جمال باشا السفّاح. ولكن لكل التاريخ الثقافي العربي، لكلنا كذات ثقافية عربية، لماذا أخطأت المسيرة العربية بين المشروعين، وكيف نستفيد اليوم منها، ليس لعلاقةٍ مع أستانة جديدة، فهذا الأمر، مهما صعدت تركيا المعاصرة، فإن تحوّلها إلى إمبراطورية وهم كبير.
والغريب أن حديثي المكثّف مع الأشقاء من حزب العدالة والتنمية في تركيا، أو رفقاء تجربة إنشائها، كانت تُطرح فيه بوضوح مساراتٌ تُغيّب، اليوم لدى مريدي التجربة العرب، أن هذا الحديث كان يتفق مع أن التجربة الحديثة لا تسعى إلى عودة سيناريو إمبراطوري، ولا تدعو العرب إلى الإسلام العثماني، وإنما باتحاد شعوب الشرق، مع تجربتهم الصاعدة في ذروة تفوّقها في العام 2010، ولنكوّن معاً عهداً شرقياً جديداً، يقوم على رد الاعتبار للروح الإسلامية، برؤيةٍ نهضويةٍ معاصرة، حرية الإنسان وتقدّمه، هي المهمة الوطنية والإنسانية المشتركة في الشرق. والعبور إلى المصالح ليس موقفا انتهازياً، وإنما المقصد منه أن ينتهج حزب العدالة والتنمية، عبر البراغماتية الواقعية، شبكة مصالح لصالح تركيا مع دول الشرق كلها، تُفرض عبرها قاعدة تحييد نسبي للتدخل الغربي، وتُقيم قواعد تفاهم مع فكرة قدماء الإصلاحيين الأتراك الذين زهد في رأيهم السلاطين، فبنوا حصناً من الانكشارية العسكرية التي عادت تضرب سلاطينَها ورجالَها، بعد أن نبذت الأستانة العقل العثماني القديم الذي كان يحاول إرشادهم منذ حاجي خليفة (الجغرافي والمؤرخ العثماني المتوفى في 1657م). بل إن أصدقاء من ذوي الخلفية الشرعية، لا العلمانية، في حزب العدالة والتنمية، كانوا يقولون لي، في حوارنا، ضمن بحثي في التجربة التركية في العام 2013، إن "جزءاً من مشروعنا يعتمد على التطوير التقني للدولة الحديثة التي ورثناها عن أتاتورك، وأننا نعتبره تراثا قوميا نهضويا". ليس كل مشروع أتاتورك بالطبع، ولا روح كراهيته الإسلام، وإنما الواقع التركي الداخلي، وهذا له أيضا ذاكرة صعبة في العهد العثماني مع مسألة العلم والتقدم، والمواطنة وصناعة الدولة الحديثة، ولا تزال الغالبية الكبرى من الأتراك تحمل لمشروع أتاتورك مشاعر إجلالٍ خاصة.
كانت هذه البنية مناسبة جداً في إطارها العربي، واضحة تماما، تقيم جسر شراكة لفكرة النهضة ذات الروح الإسلامية التي حرّرها منظّر التجربة الفكري، بغض النظر عن موقعه السياسي القديم والجديد، أحمد داود أوغلو، وتُشجع على إيجاد ثقة بين العرب والأتراك، تحترم اختلاف رؤاهم ولغتهم، وتعزّز رابطتهم الإسلامية الرسالية في مسار الأخلاق، والتعاون النهضوي، وتقديم تركيا بقناعة عربية ومسلمة، لا أيديولوجية حركية، كشريك حضاري للبناء الشرقي الجديد.
ولذلك، تفاعل بعض المثقفين العرب مع نظرائهم الإسلاميين، من اليساريين والليبراليين والقوميين، بتعدّد توجهاتهم مع التجربة، غير أن التطورات الضخمة، في الداخل التركي وما بعد الربيع العربي، قلبت الأمور كثيراً، وخصوصا بعد الرسائل الجديدة التي بعثها حزب العدالة، وكأنه يؤمن بإعادة تنظيم هذا التوافق، في ظل صعود شرس للتيار العثماني العربي الذي لا يقبل إطار تعاون مع تركيا المسلمة الحديثة، بميزان استقلال ومصالح، بل بولاء مطلق
والغريب أن الزملاء الأتراك يُصرّون على أن القاعدة لم تتغيّر، كمفهوم لديهم، ولكن ما نراه أن القاعدة تتغير على الأرض والاحتقان العربي التركي يعود داخل تركيا وخارجها، فهل المسؤول عنه الثورة المضادة ومشروع أبوظبي - الرياض فقط؟
الحقيقة أن الأمر ليس كذلك، وأن تطوّر المشاعر السلبية في الشارع التركي الذي يزدحم فيه اللاجئون العرب، ولو كانوا يساهمون في اقتصاده، يمثل تحدّيا تاريخيا اجتماعيا كبيرا كشعوب لأمة الشرق، وكمتطلعين للخروج من محن الحروب والدمار إلى تحالف نهضوي مؤمل، وهذا الأمر لا يساعد فيه مطلقا سوق المصالح القائم في الحالة الإعلامية التركية الموجهة إلى العرب.
أكانوا عرباً أو أتراكاً ناطقين بالعربية، هناك أيضاً حاجز سميك لدى النفسية التركية مع العرب، والمهمة هنا أن يُعاد تأسيس المنتدى العربي التركي ليس عبر بروباغاندا العهد العثماني، ولا تفوّق العرق التركي، ولا عبر العنصرية العربية الحاقدة على ذلك الميراث، إنما لقيام علاقة فكرية صلبة وواقعية وأخوية، لا تُسقط المصالح ولا الاستقلال لكل شعوب الشرق والرسالة الإسلامية.
دلالات
مقالات أخرى
14 مايو 2024
30 ابريل 2024
23 ابريل 2024