08 يوليو 2019
يوميات سفر
محطة سانت بانكراس
أول مرةٍ أرى هذه المحطة من الداخل. سنين ظلت الأشغال فيها تعيق حركة السير في هذه المنطقة الحيوية من لندن (كنغز كروس). أنا هنا لأستقل القطار الذاهب إلى عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل. من قبلُ كان قطار "يورو ستار" الذي يربط لندن ومدناً أوروبية عدة ينطلق من محطة "ووترلو"، إلى أن أعيد تصميم هذه المحطة اللندنية العريقة، لتكون قاعدة انطلاق القطار الأوروبي. صباحٌ لندني مشرق، بعد أيام من القتامة والمطر المتواصل. في الأمكنة التي جئنا منها، يتبادل الناس تباريك المطر، ويتناقلون أخبار هذا الضيف العزيز، النادر. لكن ليس هنا حيث يتناقل الناس عكس ذلك: تباريك الشمس وشروقها بعد احتجاب. مرحى. مرحى. أهلا بك، أيتها الأم الكبيرة. لقد أطلت الغيبة.
عهدي بالقراءات الشعرية بعيدٌ بعض الشيء. تقريباً، توقفت عن فعل ذلك، خصوصاً إذا كان هناك سفر طويل. صارت خدمة سكايب تحل محل الحضور الجسدي للشاعر. هكذا قرأت في جمعٍ من المهتمين بالشعر في نيويورك، من دون أن تطأها قدماي، وكنت بين عزيزاتٍ وعزيزين في حيفا، من دون أن أرى حرفاً عبرياً واحداً. لا سفر. لا حقائب. لا مطارات. محطات. لا تفتيش وخلع كل ما ترتدي تقريباً: حزامك، ساعتك، نعلك، قبل أن تجد نفسك أمام تفتيش آخر، و"تحسيسٍ" على الجسد "يدوياً".
الحركة نشطة في محطة سانت بانكراس. حقائب تتحرّك في كل اتجاه، وأناسٌ يهرولون وراءها. روائح القهوة تتصاعد من بضعة مقاهٍ بكَّرت في فتح أبوابها وإذاعة أجمل رائحتين: الخبز والقهوة. النداءات على القطارات المغادرة ببضع لغاتٍ أوروبية، تتوالى.. كل شيء نظيف وهادىء في هذه المحطة، على الرغم من أنها بؤرة حركة. فكَّرت كيف ستكون هذه المحطة بعد عامين، عندما يبدأ الطلاق الفعلي بين دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في ما بات يعرف اليوم باسم "بريكست"؟ فهذه المحطة، هذا القطار، هما أوضح رمزين أوروبيين في قلب لندن. اسم القطار دليلٌ عليه: النجم الأوروبي. فأي نجمٍ سيلمع في سماء لندن الكالحة بعد عامين؟ لا أحد يعرف بالضبط.
انقراض الورق
ينقرض الورق تدريجاً. هذا خبر سار للأشجار. التذاكر التي أحملها إلى محطات سفري القادمة كلها على الموبايل. لم تعد هناك تذاكر ورقية، وإن كانت لا تزال، فهي في طريقها إلى الانقراض التام. لن تكون هناك شبابيك تبتاع منها التذاكر. صار في وسعنا شراء التذكرة من البوابات التي تؤدي إلى أرصفة القطارات بالبطاقة الائتمانية (كريدت كارد). حتى النقود الورقية ستنقرض. فلا نستغرب انتقال الصحف والمجلات من الورق إلى الوسائط الإلكترونية الجديدة. تقريباً، لم أر متصفحي جرائد في المقاهي، كما كانت الحال من قبل، الجميع منكبٌّ، بما يشبه الخشوع، على أجهزتهم الإلكترونية: موبايل، تابلت، وما شابه. لكني سأرى الكتاب في هذه الرحلة الأوروبية. في القطارات الدولية والمحلية، الكتاب لم يهتزَّ عرشه.
بروكسل
الحضور العسكري واضحٌ في محطة بروكسل المركزية. جنود مدجّجون بالسلاح وأيديهم على الزناد. أو يوحون لك بذلك. ليسوا رجال شرطة، بل عسكريون، كما يبدون من أزيائهم المرقّطة ومعدّاتهم العسكرية. لم يكن الأمر كذلك في لندن. ولكن، دعونا نتذكّر أن هذه المحطة تعرّضت لاعتداءات إرهابية، وأن مقارّ سيادية ضربها الإرهاب الداعشي الذي لا يهزُّ شعرة في مفرق المؤسسة الأوروبية الحاكمة، ولكنه يسيء إلينا بأفدح الطرق. لن تنهار فرنسا ولا بريطاينا، ألمانيا، بلجيكا، من جرّاء بضع عمليات دهس مجنونة، لكن سمعتنا تنهار مع كل فعل يائس كهذا.
محطة إنتويرب المركزية
هذه محطة إمبراطورية بكل معنى الكلمة. تدهشك جماليات المعمار والديكور الداخلي لهذه المحطة التي تبدو أنها تنتمي إلى عصر آخر. عصر النهب الأفريقي واسع النطاق الذي أسهمت فيه هذه المدينة المسماة "عاصمة الألماس". وبذكري هذه الكلمة المشعّة، أتذكر فيلم دي كابريو الذي يتناول واحدةً من حكايات الألماس المنقوع بالدم. إنتويرب مدينة غنية. وسطها التجاري يعكس هذا، بل تعرف ذلك من مجرّد تجوالك في محطتها المركزية. لم يعد يستغرب المرء سماع اللغة العربية، بلهجاتٍ مختلفة، في المدن الأوروبية. هنا ستسمعها مغربية، عراقية، سورية، فلسطينية، فهذا هو عصر الشتات العربي.