59 عاماً على استقلال السودان
يحتفل السودان، في الأول من يناير/ كانون الثاني 2015، أي يوم الخميس المقبل، بالذكرى التاسعة والخمسين لاستقلال البلاد من الحكم البريطاني. وليس سهلاً على المرء أن يقول إنه ليس هناك ما يمكن أن نحتفل به، نحن السودانيين، في هذه المناسبة التي تكرر مرورها حتى الآن تسعة وخمسين مرة، ولم يكن الحال، في أي منها، أفضل من سابقه. فالقول إنه ليس لدينا ما نحتفي به قول صحيح، على مرارته الصادمة. فالتدهور المستمر في أحوال الدولة السودانية الذي أصبح يلامس حد التفكك غدا حقيقةً عاريةً، لا يمكن تجنب قولها، كما لم يعد هناك مجالٌ للمواربة في قولها بأي حال.
قبل ثلاثة أعوام، انفصل جنوب السودان، بعد حرب استمرت، بصورة مجملة، قرابة الخمسين عاماً. حربٌ أحرقت الأخضر واليابس، وأهدرت موارد بالغة الضخامة، وأضاعت وقتاً ثميناً، كما قتلت ملايين وشردتهم. وكما كان استقلال السودان من الحكم البريطاني مجرد دخول في مسلسلٍ طويلٍ من الانهيار المضطرد، متصل الحلقات، كان انفصال جنوب السودان تكراراً أفظع للتجربة نفسها. ولن يستغرق الانهيار الكامل للجنوب الزمن الذي استغرقه انهيار الدولة السودانية الأم، إن لم يع ساسة الجنوب درس الدولة الأم. والسبب في أن الجنوب لن يجد الفرصة التي وجدها الشمال في الصمود الأطول نسبياً أمام المشكلات، هو أن الدولة الأم تميّزت بتماسكٍ نسبي، لا تملكه دولة الجنوب، ذات البنية الضعيفة المتّسمة بالهشاشة.
لو تتبّعنا مسار الدولة السودانية، منذ بداية حقبة ما بعد الاستقلال، لوجدنا أن التفكير الانقلابي كان السبب الرئيس وراء كل الإشكالات التي اعترضت جهود بناء الدولة السودانية وتسببت في إجهاضها. وبنظرة استعاديةٍ عبر المسار الذي تكونت فيه "المثقفية" السودانية الحديثة، نجد أن جذور التفكير الانقلابي الذي وسم الممارسة السياسية عقب الاستقلال، تعود إلى بداية القرن العشرين، عقب إنشاء كلية غردون التذكارية التي كانت البذرة الأولى للتعليم الجامعي في السودان. تحولت الكلية، في ما بعد، إلى جامعة الخرطوم، أولى الجامعات السودانية وأكبرها. فقبل بداية القرن العشرين، لم يعرف القطر السوداني التعليم الجامعي، بل ولا التعليم الثانوي الحديث. من هنا، يمكن القول إن الصفوة المتعلمة التي قادت النضال المدني السلمي ضد المستعمر، في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، عقب تكوين ما سمي "مؤتمر الخريجين"، كانت صفوة محدودة التعليم، قليلة التجربة. وبحكم مناهج تعليم كلية غردون التذكارية التي أرادها المستعمر مجرد "مفرخة" لصغار الكَتَبة والمحاسبين والمهنيين في المستوى الوسيط، لا غير، فإن طلائع المتعلمين جاؤوا إلى حقل السياسة من جهة الشعر والأدب، لا من جهة الفكر السياسي، والعلوم الاجتماعية. وقد كانت كلمة "مثقف"، في تلك الحقبة، تكاد تتطابق مع كلمتي "شاعر" و"أديب".
هذه العلل البنوية التي اكتنفت نشوء الوعي السياسي السوداني، ومهارات بناء الدولة الحديثة، مسألةٌ لم تناقشها الأدبيات الفكرية والسياسية السودانية اللاحقة بالقدر الكافي. انحبست صور الذين أداروا حراك الاستقلال، وأصبحوا، من بعد، الآباء المؤسسين للدولة السودانية المستقلة، في إطار الأيقونات المقدسة. فالنظرة نحوهم لم تخرج قط من الإطراء والتمجيد العاطفي، الخالي من أي مقارباتٍ نقديةٍ، جادةٍ، مبصرة. ومَن يشاهد أجهزة الإعلام السودانية هذه الأيام، وهي تحتفل بذكرى الاستقلال يلحظ حصرها جهدها، كما دأبها المستمر، في مجرد الاحتفاء الذي لا يحيد عن هذه النبرة التمجيدية العاطفية الاحتفائية الفجة، التي تتحاشى النظر النقدي تحاشياً تاماً.
إن أسوأ ما يمكن أن يبتلى به بلدٌ من البلدان هو الفكر الانقلابي. ولا ينحصر الفكر الانقلابي في إحراز السلطة بالقوة العسكرية وحسب، وإنما يشمل، أيضاً، محاولات تسريع خطى الواقع قسراً، وتجاوزه بغير إدراك عميق لإشكالياته، ما يقود إلى هدم البنى القديمة، قبل أن تكون البنى الحديثة قد تشكلت فعلاً، وأصبحت قادرة على أن تحل محل البنى القديمة. نشأت الحركة الوطنية السودانية في الربع الثاني من القرن العشرين، وقوامها متعلمون صغيرو السن؛ بعضهم في منتصف العشرينات، وبعضهم الآخر في الثلاثينات. نشأ هؤلاء بتعليم نصفه غربي، غير أنه مجتزأ ومقتلعٌ من سياقه التاريخي، قوامه شذراتٌ من هنا وهناك. أما نصفه الآخر فديني سلفي تلقيني. تشكل وعي تلك الصفوة المتعلمة عبر جمعيات القراءة التي تشكلت في أحياء العاصمة، خصوصاً مدينة أم درمان، ولم يكن عبر التدريب الأكاديمي المتوفر على جانبي السعة والعمق. نشأ هؤلاء المتعلمون الشباب كارهين للطائفية وللإدارة الأهلية العشائرية، وهما المؤسستان اللتان اعتمد عليهما البريطانيون في إدارة البلاد، بناءً على بحوث حقلية أنثروبولوجية ثرّة. وعلى الرغم من أن أكثرية هؤلاء الطلائع، انضمت، في ما بعد، لأسباب برغماتية محضة، للحزبين الطائفيين الكبيرين، لحظة نشوء الأحزاب السياسية في أربعينات القرن العشرين، إلا أن البقية المؤدلجة، كالشيوعيين والإخوان المسلمين، وغيرهم من التنظيمات الإيديولوجية الأصغر حجماً، أصبحوا المركبة التي بلورت الفكر الانقلابي، وحملته إلى مستقبل الممارسات السياسية التي أعقبت الاستقلال.
وقف وراء أول انقلاب عسكري في السودان حزب الأمة؛ حزب طائفة الأنصار التي يتزعمها آل المهدي. فبعد عامين من الاستقلال، أوعز رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً، عبد الله خليل، القيادي البارز في الحزب، إلى الفريق إبراهيم عبود بتسلم السلطة، قطعاً للطريق على خطةٍ مدعومة من مصر، كان يعدها غريمهم الحزب الاتحادي. ومنذ تلك اللحظة، دخل السودان في مسلسل الانقلابات العسكرية. أسقط السودانيون حكم عبود بثورة شعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 1964. ولقد اتسمت سنوات حكم الفريق باعتمادها الحل الأمني في الجنوب، فارتكبت فيه أبشع المجازر، وأوغرت صدور الجنوبيين على الشماليين بصورة غير مسبوقة، كان لها سود العواقب على مستقبل علاقة الجنوب بالشمال.
بعد أربع سنوات من الممارسة الديمقراطية، التي أعقبت سقوط نظام الفريق عبود، قام العقيد جعفر نميري بانقلاب عسكري في مايو/ أيار 1969، وقف وراءه القوميون العرب، ودعمه الشيوعيون، وشاركوا في أجهزته التنفيذية. استهدف الانقلابيون الطائفية والإدارة الأهلية استهدافاً لا هوادة فيه، باسم التقدمية وباسم التطوير والتنمية. وبعد عامين، قام الشيوعيون بانقلاب مضادٍ لانقلاب نميري، بعد أن أقالهم نميري واعتقل قائدهم. فشل انقلابهم بعد ثلاثة أيام من قيامه، ما أدى إلى رد فعل ماحق ضد الحزب الشيوعي السوداني، وأُعدم كبار قادته. بقي نظام نميري في الحكم 16 عاماً، ظل يفقد فيها توازنه باستمرار، ويغيّر تحالفاته من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، منتهياً بدولة دينية وقف وراءها الإسلاميون. وحين سقط في انتفاضة أبريل/ نيسان 1985 الشعبية، تكشفت انهيارات بشعة في بنية الدولة السودانية. فلا التحديث والتطوير حدثا، ولا البنيات القديمة الراسخة بقيت مكانها. وقد مثلت فترة حكم الرئيس جعفر نميري المنعطف الأكبر في مسلسل تدهور الدولة السودانية.
كانت تجربة الرئيسين، عبود ونميري، كافيتين جداً لكي يتوب الإيديولوجيون من التفكير الانقلابي. ولكن الإيديولوجيين لا يتوبون، ولا هم يذكرون. في عام 1989 جاء الإسلاميون، بقيادة الدكتور حسن الترابي، بأنفسهم إلى الحكم، عبر انقلاب عسكري، ظانين أن مشكلات السودان ستحل على أيديهم، وإلى الأبد. وهاكم اقرأوا كتابهم: في عهدهم انفصل الجنوب، وانتقلت الحرب من الجنوب إلى الغرب والوسط، وانهار الاقتصاد، وانهار سعر العملة، حتى أضحى الدولار الأميركي يعادل 9000 جنيه سوداني، بعد أن كان الجنيه السوداني يعادل، منذ لحظة الاستقلال، وحتى السبعينات ثلاثة دولارات وثلث، وانهار التعليم انهياراً كاملاً، وانعزل السودان عن محيطه الإقليمي والدولي، وانهار الجيش، وأنشأت الحكومة وحزبها الأوحد الحاكم ميليشياتهم الخاصة، وأصبح جهاز الأمن السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. هذا حال السودان بعد 59 عاماً من الاستقلال، وهذا حصاد التفكير الانقلابي. مع ذلك، قليلون أولئك الذين يودون إخضاع مجمل التجربة السودانية، ومسيرة استقلال السودان، إلى نقدٍ حقيقي. وإلى أن يحدث ذلك، ستسير الأمور من سيّءٍ إلى أسوأ.