الأب والابن
كانت علاقة الأب بابنه تحملُ كثيراً من الود والمحبّة، ولا يمكن لها أن تنفكّ ببساطة على الرغم من المسافة التي تفصل بينهما، وبصورة خاصة بعد أن استقل الابن في العيش بمفرده في بيت يحتضنه وأولاده الأربعة بعيداً عن والده الذي قضى معه سنوات في بيته الكبير. فشوق الوالد لابنه، والرغبة الجارفة في اللقاء به، والحوار معه ورؤيته بصورة يومية، ما اعتاد عليه، ومن الصعوبة الابتعاد عنه وعدم التواصل معه.
هكذا كانت ألوان الحبّ غير العادي الذي كان يكنّه الأب لابنه، ولم يَعد يُفكر في الابتعاد عنه، وإن اضطره ذلك فإنه يلجأ إلى التواصل معه عبر الهاتف، أو الواتساب، وكثير من المرات يحاول الأب فيها أن يكون قريباً من ابنه، والإنصات لحديثه المشوّق، على الرغم من أن له ما يكفيه من الأولاد الذكور، ومحبته لهذا الابن تختلف عن بقية أبنائه.
كان الأب يَجدُ في ابنه الخادم المطيع لمتطلباته، وطالما يسرع في تلبية ما يريد. ورغم مشاغل الابن فهو لا يمكن أن يقف متذمّراً من تأمين رغباته، بل يفرحُ أشدّ الفرح حيال تنفيذ ما تشتهي نفسه.
كان الابن يدفع من ماله الخاص لقاء إرضاء والده، ويوظف جهده في سبيل راحته، محاولاً فتح الطريق أمامه بتقديم أي شيء يسعده، ووالده لم يقصر يوماً في مساعدته مادياً، ويرفض أخذ أي هدية من ابنه، وإن كانت رمزية، وخاصة بعد أن أصبح يشغل مركزاً مهمّاً في عمله الوظيفي الذي يدرّ عليه دخلاً جيداً، ووالده يُصر على مساعدته، وهو يأبى ذلك!.
كانت طبيعة وظيفة الابن الحكومية على تماس مباشر مع المواطنين، ما يعني أنّه مكتفٍ مادياً، وأغلب المراجعين للعمل الذي يشغله من سائقي الشاحنات الكبيرة، فهو يتعامل في خدمتهم بكل احترام وتقدير. وكثيراً ما كان يُشغِلُ الوالدُ فكره عَمل ابنه، وكثيراً ما كان يحذّره من الوقوع في ارتكاب الخطأ لأنه لا يليق به، ولا بسمعته.
ظلّ الأب يتابع عمل ابنه، ويسأله عن الأعمال التي يقوم بها، وعن دوره الوظيفي؟
وقف ابنه بحذر، وهو يتذكر حديث والده ونصائحه له مع كل لقاء يجمعهما ببعض.. إلا أن احتياجات الابن، وطلبات أسرته ظلت كثيرة، والعمل الذي يقوم به يُعدّ بالنسبة له كنز لا يمكن التخلي عنه، وما يدخل في جيبه يومياً من "إكراميات" يفوق دخل عدد من الموظفين الكبار، وهذا الدخل مكّنه من أن يحافظ عليه وجعله من الملاّك الصغار، فعمل على شراء مساحات من الأراضي الزراعية، والشقق السكنية، فضلاً عن المحال التجارية في وسط المدينة، ورغم النقلة الجديدة التي طرأت على حياته لم تظهر عليه علائم البذخ!.
ظلّ والده يتردّد على زيارته بصورةِ يومية، وإن تعثر في بعض الأيام، فإنه يتواصل معه عبر الهاتف، ويحذره من الوقوع في المحظور
ظلّ والده يتردّد على زيارته بصورةِ يومية، وإن تعثر في بعض الأيام، فإنه يتواصل معه عبر الهاتف، ويحذره من الوقوع في المحظور.
فكر الابن في أن يغيّر الحال السيئ الذي يعيشه وأسرته، وأن يبادر إلى الانتقال إلى بيت سكني يليق به. استبدل أغراض البيت القديمة بأخرى تتناسب مع مكانته الوظيفية الجديدة، وهذا ما دفعه إلى إجراء التغيير الذي كان يخطط له، ويتناسب مع عمله حيث صار يعيش براحة تامّة لا ينقصه شيء، بعد أن كان يقضي جلّ أيامه على الكفاف لفترة بعيدة.
انتقال الابن إلى دار سكنه الجديدة، ناهيك عن السيارة التي اشتراها، وأخذ يركنها أمام مسكنه في أحد أحياء المدينة الراقية، أثار تساؤلات أبيه ومعارفه وأصدقائه.
ظل الأب خائفاً على ابنه حيال البذخ غير العادي الذي غيّر كثيراً من حياته وحياة أسرته، بفضل "الإكراميات" التي كان سائقو الشاحنات الكبيرة المحمّلة بأطنان القمح والشوندر السكري والقطن يدفعونها له بعد أن يقوم بمساعدتهم بصرف أجور الشحن التي يقضيها السائقون في العراء، والمسافات التي يقطعونها، ما مكّنه من كسب كثير من النقود. عانى وصبر طويلاً في إخفائها عن أقربائه وأصدقائه وأهل بيته، لكن الأمر لم يخفَ على أهل المدينة فانتشر الخبر، وعلم الوالد.
غضب الأب وكان خائفاً من هذا المال الوفير الذي استفاد ابنه من استثماره في المحال التجارية والأراضي واعتبره مالاً غير مشروع، وطلب منه التوقف عن هذا العمل وإعفائه منه، والاكتفاء بما حصل عليه.
انصاع الابن لأبيه وتقدّم للإدارة بإعفائه من العمل، وتم نقله إلى عمل إداري آخر، وهذا ما أثار حنق سائقي الشاحنات الذين تغيرت معاملتهم ومواعيد صرف مستحقاتهم مع كثير من الجفاء والتنمر من قبل الموظف الجديد، بينما هذا الاجراء رحّب به والده، ورسم على شفتيه ابتسامة رضا في أن يحمي ابنه من ألا يكون كبش فداء في كماشة محاسبة الدولة في ظل المكاسب المالية التي أغرقته بالرفاهية والغنى الفاحش.
انتبه الابن لابتسامة الامتنان من أبيه فشعر بمكانة الأب الكبيرة، ولا يمكن بحال أن نغفل عنها، أو إهمالها.