الأملاك الضائعة
السكن قضية نسوية، هكذا تقول الحقيقة، نساء كثيرات استسلمن للذل لأنهن لا يملكن مسكناً، وكثيرات حرمن أو تنازلن عن حقهن بالإرث رغماً عنهن، رغم كل عبارات التودد والشكر والعرفان من رجال العائلة وأحياناً من الأمهات والعمات أيضاً، ليبدو التنازل طوعياً وعادياً وكأنه من طبيعة الحياة.
يتم توجيه النساء ضمناً وعلناً، عند توفر السيولة لديها، إلى شراء الذهب، لم تقل الأم لابنتها يوماً: اشتري عقاراً أو قطعة أرض! الحماية من غدرات الزمان وحصالة المستقبل لها أيضاً صورة نمطية واحدة عند النساء، عممها الرجال وكرستها العادات! مصاغ ذهبي.
يخاف رجال العائلة من فكرة اقتناء النساء البيوت، ضغط والد سحر عليها في ما يشبه التهديد لتكتب بيتا اشترته بالتقسيط باسمه أو باسم شقيقها الأكبر، وحين رفضت فاوضها على أن تسجله باسم ابن أخيها الأكبر، مستغلا محبتها الكبيرة لابن أخيها التي وصلت إلى حد التبني، كررت سحر الرفض متذرعة بأن البيت سيسجل حكما باسمها لأن سداد أقساطه الشهرية سيكون من راتبها حصريا.
يعتبر رجال العائلة شراء البنات العازبات البيوت عاراً، وكأنه قرار علني بالاستقلالية عن العائلة، فما هو متعارف عليه، والأصح ما هو مسموح به لسكن النساء، هو بيت الأهل وبيت الزوج وبيت أهل الزوج عند الترمل أو سفر الزوج لمدة طويلة.
حلمت سحر بأن تسكن في بيتها الجديد ولو لأسبوع واحد، لكن والدها رفض بشدة، وعندما فرض عليها إغلاقه أو تأجيره، وافقت على تأجيره، ففرض نفسه وكيلاً عنها لمتابعة معاملة التأجير لأن المكاتب العقارية ودوائر الدولة ليست مكاناً آمنا للنساء، بل إن وجودها في هذه الأماكن مجلب للعار والتحرش والطمع والرغبة بالاستغلال. خافت سحر من أن يتصرف والدها بمنزلها بموجب الوكالة الممنوحة له، تنازلاً لنفسه، فيرثه أخوتها الذكور حصراً، أو بيعاً لأحد الأبناء دوناً عن غيره بذريعة تشغيل قيمة المسكن لتحسين وضع العائلة، كل القصص في المحيط العام والخاص تروي وقائع تغتصب حقوق النساء وتعتبرها ملكاً حصرياً للعائلة، حتى النساء أنفسهن هن ملك حصري لعائلاتهن، قد يُمنعن من الإرث ومن العمل وحتى من الزواج، لحصر إرث العائلة بالأبناء الذكور وأبنائهم من بعدهم، أبناء وبنات الابنة يعدون غرباء وتُمنع عنهم الاستفادة من إرث أمهم، لأنه ليس ملكاً لها أصلاً.
حين تصير الملكية عبئاً على النساء ومصدرا للخوف والاحتيال والتعدي، ينبغي عليهن الإصرار على البقاء على أهبة المواجهة
استشارت سحر محامياً، وحين صاغ المحامي وكالة خاصة صالحة فقط لتأجير البيت، قاطعها والدها، اتهمها بالعقوق وبالتمرد على سلطته، قال لأمها: لولا العيب لطردتها خارجاً، أو لحبستها في غرفتها، لكنها تملك بيتاً خاصاً بها، ستستقوي به، وستجد عقابي لها مبرراً لتسكن به وحيدة، وتفلت على حل شعرها، وتستجلب لنا المذمة وكلام الناس والفضائح..
تسعى النساء دوماً لضمان حقوقهن بطريقة خاصة والتفافية أحياناً، لأنه لا شيء يضمن حقوقها، يقع الجميع فجأة في حب العمة أو الخالة أو الأخت التي تمتلك مسكناً خاصاً بها، يكتشفون وجودها في حياتهم فجأة! فقط لأن موعد أجلها قد اقترب، تداعب صورة البيت وقيمته النقدية مخيلاتهم، يخطط البعض بالحيلة أو بالإرغام أو بالتراضي للحصول على البيت بصورة فردية، تراض وضعت شروطه على عجل وبظلم كبير، كأن يتعهدوا بخدمتها حتى مماتها، أو أن يقوموا بنقلها لتعيش بينهم في ساعاتها الأخيرة، لكن بشرط! شرط بسيط وواضح جدا، أن تتنازل عن البيت بموجب عقد بيع نظامي ومصدق!! وحكايات العقود المزورة للتنازل عن مثل هذه البيوت كثيرة جدا، تشعل ناراً بين أفراد العائلة الطامعين بحصرية الإرث بهم، وحضور أقارب لا يعرفون بعضهم ساعة الوفاة مرده رغبة وحيدة وهي الحصول على الحصة الإرثية في أسرع وقت، وربما قبل انتهاء مراسم العزاء.
لطالما شكت نساء وحيدات من سرقة مصاغهن من قبل أقربائهن الزائرين لهن بذريعة الاطمئنان عليهن، وقد يتهمهن الأقارب بالكذب أو بالخرف أو بالحقد لنكران أفعال السرقة وربما بيع الممتلكات، وبعضهن يشكو الضرب والإهانة لتقصير أعمارهن بعد إتمام عملية فراغ البيوت للأقارب، الذين نما فجأة حس المسؤولية لديهم تجاه قريباتهم.
في لحظة تفكير مباغتة، وعت سوسن التي تجاوزت الخامسة والستين من عمرها أن مصيراً أسود سيفرض نفسه عليها وعلى أغلى ما اقتنته في حياتها، بيتها الصغير في إحدى ضواحي دمشق، والذي اختارت كل تفصيل به حسب رغبتها وبإرادتها الشخصية وتلبية لذوقها الخاص، لون الخزائن، اتساع النوافذ، نوع البلاط والرخام وحديد الأبواب، لكن سؤالا ملحا واجهتها به غالبية زوارها، وخاصة من أفراد عائلتها الضيقة، لماذا يوجد سرير مزدوج، أي لشخصين، في غرفة نوم سوسن الخاصة؟
ردت سوسن بجواب مراوغ، هذا لعرسان العائلة الذين سأدعوهم لتمضية شهر العسل في بيتي الجميل والهادئ، سكت الجميع على مضض، واستمرت سوسن في تدليل سريرها المزدوج بزوج من الوسائد المريحة وبأغطية عرائسية زاهية، كانت تحتفل بنفسها، والجميع يظن أنها تحتفل برجال العائلة وبذريتهم القادمة التي ستحفظ اسم العائلة، خاصة حينما يتقاسم ذكور العائلة بيتها بعد مماتها.
تلك اللحظة المباغتة أيقظت سؤال إلى أين المصير؟ راتبها التقاعدي لم يعد كافيا لتسديد الفواتير الشهرية، ولن تعود للضيعة النائية والفقيرة في الخدمات والغريبة بالنسبة لسوسن، وتؤجر بيتها لتعيش من بدل إيجاره الذي لن يكفيها أيضاً وسيحرمها من التمتع بمساحتها الشخصية، اتصلت بأخيها المقيم في كندا، شرحت له الوضع بوضوح، وقدمت مقترحا: سأبيعك البيت بنصف قيمته، على أن ترسل لي المبلغ فورا كي أضمن شيخوختي وأهبك مجانا النصف المتبقي مقابل بقائي في منزلي حتى مماتي!! وافق الأخ، كانت مبادرة لم يألفها المجتمع أبدا، شعرت سوسن بالإنصاف والاطمئنان وشكرت أخيها بحرارة، اعتبرتها الغالبية صفقة ناجحة، لكن إحداهن قالت: لماذا لم يمنحك كامل قيمة البيت على أن تبقين به، أخاك مقتدر وسيبقى المنزل له وحده، ولا حاجة له به من أصله؟
تتحول ملكيات النساء إلى مكامن خطرة، أفخاخ ترمي بالأضعف في شراكها، تغدو ملكيات النساء، وخاصة العقارية، مهدورة ومستلبة حكما من قبل ذكور العائلة، تنشد النساء جزءا من حريتهن الخاصة، وربما حرية وكرامة أبنائهن وأزواجهن عبر الملكية، لكنها بوابات لحروب مستترة، شرسة رغم أنها غير معلنة، حروب معاركها حادة وعنيفة وظالمة، أملاك ضائعة، منهوبة، وصاحباتها مهدور دمهن كما أملاكهن، فالملكية حق محصور بالرجال.
حين تصير الملكية عبئاً على النساء ومصدراً للخوف والاحتيال والتعدي، ينبغي عليهن الإصرار على البقاء على أهبة المواجهة، وإبقاؤها مساحة مستقلة وحرة لهن وحدهن حق التصرف بها.
وتتحول حمايتها إلى حق وجود، كما لو أن ملكياتهن تساوي حيواتهن.