الإعلان المجرّم: الإفصاح من أجل العدالة
هزت قضية الطفلة الضحية اللبنانية، لين طالب، مشاعر الناس، وحفلت وسائل التواصل الاجتماعي بردات فعل حادة وعنيفة تندد بالجريمة، وتطالب بالقصاص العادل، وإن كان الاغتصاب جريمة مكتملة الأركان من حيث التوصيف الجنائي، فهو أيضاً جريمة ذات أبعاد اجتماعية أوسع وأكثر تأثيراً في الرأي العام، وهي على الرغم من إدانتها اجتماعياً، فإنها في الغالب جريمة مسكوت عنها، ويجري التعامل مع أغلبها بالصمت، إما بسبب ضعف الضحايا، وتهميشهم، وعدم قدرتهم على الوصول إلى منافذ العدالة، أو حماية للطرف الأقوى، أي المغتصب، لاعتبارات عائلية وأخلاقية وسلطوية.
تُكشف نسبة قليلة من جرائم الاغتصاب، وخاصة تلك التي تفضي إلى موت الضحايا، أما تلك الواقعات التي لا تتسبب بالموت فيجري التعامل مع غالبيتها بالصمت المطبق، أو بتحميل الضحايا أنفسهم مسؤولية ما جرى بحقهم من انتهاكات وجرائم.
قررت رندة (اسم مستعار) أن تكشف لأمها عن تحرش أخيها المتكرر بها، وأن إحدى عمليات التحرش كادت أن تفضي إلى اغتصاب كامل، لكن الأم أسكتت ابنتها بشدة، ورفضت التصديق أولاً، ومن ثم تجاهلت الحادثة كفعل جرمي أو كاعتداء، بل حاولت أن تثبتها عند توصيفها بأنها مجرد فورة لشاب مراهق، أو بأنها تحرش طبيعي قد يحدث في كل العائلات. وتمادت الأم بتجريم رندة لدرجة أنها وجّهت لها اتهامات حاسمة بأن ما ترتديه في المنزل وخاصة (الشورت) هو السبب الرئيسي وراء مغامرات ابنها المراهق!
هكذا وصفتها بأنها مجرد مغامرات، تفرضها فورة جسد ابنها أمام إغراءات جسد آخر، أي جسد ابنتها رندة، وهو يتحرك بطبيعية ويريد العيش بشكل طبيعي داخل حدود بيته. طالبت الأم ابنتها بالصمت التام، وخاصة أمام الصديقات والشقيقات، وعلى الأخص أمام خالتها المحامية، والتي تلقبها الأم أي شقيقتها بأنها شيطانة تسعى لتخريب البيوت ولتجريم كل الشباب والرجال، لأنها عازبة تجاوزت سن الزواج وتكره الرجال كلهم.
تتستر النساء دوماً على جرائم التحرش والاغتصاب تحت ذريعة حماية الرجال من الوصمة ومن العقاب
أخاف فعل الإعلان والتصريح المعلن والمباشر الأم أكثر مما أخافتها محاولة الاغتصاب ذاتها، تدعي الأم أنها تحمي ابنتها بذلك التستر، عبر الإنكار والصمت، (لن يتزوجك أحد)، (لن يصدقك أحد)، وبالغت الأم بتخويف رندة بأن إفصاحها قد يضر بمستقبل شقيقاتها أيضاً حتى المتزوجات منهن، وبأن أباها قد يقتل أخاها، وحينها ستكون رندة بادعاءاتها المصدر المباشر للشر في المنزل، وقد تحرم أخاها من حياته على يد والده فتخسر العائلة رجالها!
تتستر النساء دوماً على جرائم التحرش والاغتصاب تحت ذريعة حماية الرجال من الوصمة ومن العقاب، بينما يطالب المجتمع ورجال الدين والنساء أنفسهن الفتيات والشابات بالانصياع لقرارات ونزوات وتحرشات رجال العائلة، تحت ذريعة أن الرجال هم الحماة الوحيدون لشرف النساء وشرف العائلة، إنه الفصام المزمن والمرافق لحياة الجميع.
ويبلغ التكتم مرحلة مقلقة عندما يصل إلى حدود التهديد باغتيال الحياة كحال الطفلة لين، وكحال طفلة أخرى حملت سفاحاً من شقيقها، ونظراً لتأخر انكشاف الحمل جرى الإبقاء على الجنين، وحبست الطفلة في غرفة تحت ذريعة أنها مصابة بمرض عضال وخطير حتى موعد الولادة، فماتت الطفلة جراء ولادة متعسرة وظروف غير صحية، ورميت طفلتها في حاوية القمامة لتنتظر موتاً من نوع آخر.
التكتم هنا جريمة مكتملة التوصيف أيضاً، تهدر الحياة بوعي وبقرار مطلق من قبل الأوصياء المتسلطين، قرار بالإبقاء على حال ينبغي السعي لحله أو تغييره لحماية الضحايا ولمحاسبة الجناة، يتحول الصمت هنا إلى جناية أيضاً، ويجرّم الإعلان عن الجريمة، يغدو خيار عدم الإفصاح عرفاً بديلاً لقيم العدالة، وإحقاق الحقوق، واللجوء إلى قوة القانون وسلطته وعدالته، تجريم الإعلان وعدم الإفصاح هما عنوان جرائم قتل النساء الصامتة.