البلاد الفارغة
الازدحام الحاصل خادع، الوحدة سيدة المكان، الوجوه ليست غريبة وحسب! بل كتيمة، بمعنى أنها غير قابلة للتفاعل، للنظر في وجه سواها من البشر، لا تعرف الضحك، أما الأمان فقد هجرها إلى غير رجعة، واستبد الذعر بالوجوه والأصوات والأجساد. أما الخيبة فهي سيدة الخسارات اللصيقة بالجميع، لا أحد قادر على مراوغتها أو ردها ولا حتى إقناعها بأن تكون أقل حدة وأذى.
اعتادت سلمى أن ترمي السلام على الجميع، عابرين، سائقي الباصات والحافلات، باعة الخضار، الأطفال جامعي القمامة، حتى التائهين وكأنها كانت تقرأ ضياعهم فتبادر إلى سؤالهم عما يحتاجونه أو الوجهة التي يقصدونها قبل أن يفعلوا هم ذلك، بداعي الخجل ربما!! لكن حقيقة التردد في السؤال تأتي أولاً من الخوف ذاته الذي يجلل حيوات السوريين والسوريات، والخوف نابع من احتمال الضياع ومن احتمال خسارة الجوال أو الحقيبة أو النقود القليلة، وصولاً إلى ربطة الخبز وكيس الخضار، ومن جواب سائق الحافلة: (مو طالع)! مما يعني المزيد من الانتظار والتأخير والتعب وربما الضياع الوجودي.
بالأمس كنت في زيارة لحارتي القديمة، لم يعرفني أحد! والصحيح أن كل من أعرفهم قد رحلوا، أو أنهم قد استسلموا لجدران البيوت وللعزلة بعد تعذر التجول أو قضاء الحاجات والمشاوير بسهولة بعد أزمة المواصلات والوقود الخانقة.
أحتفظ على جوالي بكل الأرقام المحلية لأصحابها المسافرين، كما أحتفظ بأرقامهم في بلادهم الجديدة مع ذكر اسم البلد ملاصقاً لاسم الشخص المقصود، لم تعد الكنية مهمة أبداً، بات البلد الجديد هو أداة التعريف بالشخص منعاً من التشابه حين تتكرر الأسماء بلا كنية أو لقب.
من المؤلم الاحتفاظ بأرقام الأموات أيضاً، لن يجيب أحد عن جوالاتهم، لكن الرقم يعني أنهم ما زالوا أحياء، والأهم أنهم ما زالوا بيننا أو معنا ولو كمجرد أرقام على قائمة أرقام تحتضر وتتلوى ألماً وحرقة، ويغمرها الشعور بغربة غير مسبوقة، غربة مهيمنة وطاغية، والأشد قسوة أنها لن تتوقف ولن تتراجع قيد أنملة.
الفراغ حرب صامتة تدور رحاها في دواخل العقول وفي نبضات القلوب، وكل الخطوات العابرة لا تسعف المشتاق في استعادة وقع خطوات من يحب
الحروب لا تعني الموت والدمار فحسب، بل تعني سيطرة الفراغ على أرواحنا كما مجالسنا وبيوتنا وأماكن اجتماعاتنا السابقة! تئن المفروشات من الفراغ الكبير الذي يحيط بها في بيوت لم تألفها بعد، أما البيوت التي بقي سكانها فيها فتحن لخطواتهم، لجلساتهم الحميمة والعصبية، الطويلة والعابرة، للقهوة المندلقة على قماشها أو لمخلفات الأطفال أو بقايا عروق البقدونس والخضار المحضرة بأيدي النساء وهن جالسات عليها.
الفراغ حرب صامتة تدور رحاها في دواخل العقول وفي نبضات القلوب، وكل الخطوات العابرة لا تسعف المشتاق في استعادة وقع خطوات من يحب، أو من اعتاد على صدى خطواتهم مهما ضاق ذرعاً بهم في ذلك الزمان.
البلاد الفارغة، بلاد متوحشة، تقاتل أهلها بصمت وتبطش بأمانهم النفسي والجسدي وربما العقلي، البلاد الفارغة غولة تأكل أولادها ولا تشبع من غرز أنيابها في قلوبهم، تغتال حتى ذاكرة المكان الخاص والعام والمشترك، حتى الأمكنة المتخيلة تختفي من الذاكرة لأنها منفية وغير قابلة للقاء، تغتال ذاكرة الأصوات، تبدل الروائح وتسرق لمعة العين المتلهفة لبسمة عابرة، لسؤال مطمئن، ولوعد بلقاء عابر وصامت ربما، لكنه حي ويحيي الشغف المغتال بصلافة لا حدود لها.
في أيام عيد الفطر الذي عبر منذ وقت قصير، تلقت ناديا دعوات عديدة وحقيقية من صديقاتها المسافرات، المهاجرات أو اللاجئات لا فرق أبداً، لأن الفارق الوحيد هو المكان لا التوصيف، الجميع قلن لها: "تعي لعنّا!" وكان ردها حزيناً وخائباً وواحداً للجميع: "وين عنّا؟؟".
عنّا، تعني النفي وعدم التحقق وتثبيت الغياب في البلاد الفارغة.