التداوي بالعطاء
عزيز أشيبان
تميل النفس البشرية إلى التماس السهل المتاح درءاً للمشقة وبذل الجهد وعناء السعي والكد وتسعى إلى اغتنام الفرص واقتناص الغنائم استجابة لغرائز الطموح والطمع والتملّك. غير أنّ هذه النفس، نفسها، قد جبلت بفضائل تمكنها من كبح ميولات الغرائز البدائية وترويض نشاطها نحو كلّ ما هو مطلوب وممدوح. وفي قلب هذه المفارقة تستقر جدلية الأخذ والعطاء عند الكائن البشري وتتحدّد نوعية ميولاته واختياراته الشخصية وتوّجهاته.
هناك من يرى في خيار الأخذ النجاعة في التعامل والفهلوة والذكاء المطلوب في تدبير العلاقات الإنسانية والواقعية في فن العيش. على الضفة الأخرى، يستقر من يجد في العطاء فضيلة الحضور من خلال خدمة الآخرين ومتعة المكابدة في الإبحار على سفينة المثالية في خضم أمواج عاتية من الأنانية والفردانية.
بين الضفتين، يوجد من اختار الوسطية والتمس حسنات الاعتدال في الأخذ والعطاء على حد سواء، تلبية لنداء إشباع الأنانية واستجابة لفضيلة نكران الذات.
من يعطي بسخاء يجني أضعاف ما يمنح من سبل متعدّدة، ويحصد ما لا يخطر على البال من حسنات ومنافع
كما هو الحال بالنسبة لعدّة صراعات تجد رحاها في دواخل الإنسان من قبيل الخير والشر، العقل والمشاعر، الشعور واللاشعور، هناك صراع بين الميول إلى الأخذ والنزوع إلى العطاء تحت ضغط النزوات والغرائز والقناعات الشخصية والمبادئ، ولكلّ شخص حرية اختيار المنحى الذي يهتدي به ويستقر عليه.
هناك من يرى أنّ خيار العطاء يقتصر على الذخائر المتفرّدة والنادرة من طينة الرسل، باعتبار الاصطفاء الرباني خدمة للإنسانية ورأفة بها. هم زمرة من الناس التي لا تترقب الجزاء ولا الشكر، ولا تكترث للجحود أو أنانية الآخرين. وهناك من يجد في المبالغة في العطاء سذاجة وغباء، وضمنياً دعوة للناس إلى التمادي في استغلال كرم المعطي، وعبث في تدبير الأمور، والتأقلم مع تطوّرات العصر ونمط عيشه المؤسّس على النفعية والفردانية وادخار الوقت والسعي نحو الكسب السريع.
أميل إلى الاعتقاد أنه مع التعمّق في التدبر في حقيقة العطاء، يتضح أنّ من يعطي بسخاء يجني أضعاف ما يمنح من سبل متعدّدة، ويحصد ما لا يخطر على البال من حسنات ومنافع. كيف ذلك؟
في الواقع، عندما يُقدم المرء على العطاء يسترسل في الأخذ دون أن يطلب أو يلتمس أو يؤذي أو يسلب أو يسترزق أو يستجدي أو يحتال على أحد. قد لا نبالغ إذا تحدثنا عن مقاربة التداوي بالعطاء، إذ عند كلّ فعل عطاء ينتاب المعطي شعور بالسعادة والاعتزاز بالنفس والافتخار بالذات والثقة في النفس والإحساس الذاتي بالرضا من خلال وعي الذات بقدرتها على فعل شيء مفيد يعرّف هويتها ويدعوها إلى الاكتشاف المستمر لما تستنبطه من قدرات ومهارات. كما يعينها على الخوض في تربية ذاتية من خلال كبح جماح نعرات الأنانية والنرجسية والفردانية واستدامة توهج فتيل الخير في خوالج الذات واكتساب حس الذكاء العاطفي من خلال التفكير في الآخرين، والتعاطف والتآزر، وبعث السعادة في النفوس. يكتنز فعل العطاء إذن ذخيرة من المحفزات التي تساهم في الحفاظ على التوازن النفسي والذهني للشخصية من خلال التخفيف من حدّة الاضطرابات النفسية والذهنية والإقدام على الإنتاج والإبداع وتقديم القيمة المضافة واكتساب الاستقلالية والعصامية وتغذية حس المسؤولية بما ينأى بصاحبه عن التواكل والكسل والتبعية.
عند كلّ فعل عطاء ينتاب المعطي شعور بالسعادة والاعتزاز بالنفس والافتخار بالذات والثقة في النفس
في علاقته مع الآخرين، يكتسب المعطي المقام الأصيل بين الناس وينعت بالكرم والجود ونكران الذات رغم جحود البعض واستهزاء البعض الآخر، باعتبار أنّ حقيقته تستوطن الدواخل وتغزو خوالج اللاشعور عند الفريقين وتأبى إلا أن تتجلّى وتسود رغم عدم اكتراث المقبل على العطاء بذلك ونفوره من الرياء وحبّ الظهور أو حتى استقبال عبارات المديح والشكر.
تتجسّد جمالية العطاء في عمق كنوزه ورحاب عوالمه وتتمثل في تعدّد تجلياته وتمدّدها. نلمسه في التضحية من أجل قضية عادلة، من خلال إتقان الواجب المهني، الإقبال على خدمة الناس، جبر الخواطر، حب الخير للغير، ترسيخ فضائل القيم والأخلاق، نشر الفكر الإيجابي وبث الأمل في النفوس، وتنوير العقول ومشاركة المعلومة. تتعدّد السبل وتتشابك وتلتقي حول الهدف نفسه: الارتقاء بالنفس وترك الأثر الجميل والاغتناء من حصاد العطاء الخالص.