الخوف من الآخر.. هوية قاتلة أم رد؟
للحروب آثارٌ سيئة، بعضها معروف ومعرّف وواضح للعيان، وبعضها الآخر موّصف لدرجة أنّ منظمات كثيرة تلجأ لمعالجتها أو تجاوزها على الأقل.
تُعرّف نظريات المواطنة الخوف بأنّه: الثقافة الثانوية الأولى التي يكتسبها الإنسان بمجرّد ولادته. وهنا يطرح السؤال الأزلي نفسه: كيف ننجو من الخوف؟ وكيف نقلّم أظفاره في أحسن الأحوال؟
في الحرب نخاف من كلّ ما هو معلوم وواضح، ويتحوّل الترّقب إلى مجرّد حالة طبيعية من الانتظار مهما كان القادم سيئًا، صوت القذائف، دوّي الرصاص، الحواجز، العتمة، الصمت المطبق، المسلحون، رائحة البارود! لكنّنا سرعان ما نعتاد كلّ شيء بدرجة أقل من الخوف، من باب الاعتياد أولًا، ومن باب قلّة الحيلة وضرورة التكيّف ثانيًا.
لكنّ الحرب لا تغادرنا، تعيش فينا طويلًا بعد أن تخيّلنا أنها ستغادرنا تمامًا بمجرد إعلان وقف عملياتها. ويظنّ الجميع أنّ الانتقال من مجتمعات الحرب إلى مجتمعات السلم يكفيه وقف القتال والآلة الحربية عن العمل. غالبًا ما يتم اللجوء إلى تقسيم آثار الحروب وجدولتها، وكأنّها عناوين ثابتة متعارف عليها ومتشابهة في كلّ دول النزاع، لدرجة أنّه يتم تبادل برامج الدعم النفسي، وقبله برامج توزيع الغذاء وضمان العلاج والاستشفاء للضحايا بذات الطريقة التقليدية التي اتبعت سابقًا في بلد آخر مختلف بكلّ تفاصيله. إذن، يتم التعامل مع الحرب كعرف سائد، وبالتالي يتم أيضًا التعامل مع تبعاتها بحزمة من الأعراف الثابتة والسائدة أيضًا دون أيّة خصوصية، أو تميّز، أو مراعاة للحالة الثقافية والسكانية والمعرفية والعرقية الموجودة في بلد النزاع الجديد.
يظن الجميع أنّ الانتقال من مجتمعات الحرب إلى مجتمعات السلم يكفيه وقف القتال والآلة الحربية عن العمل
وإن كان الخوف أثناء الحرب يبدو مبرّرًا وطبيعيًا كرد فعل آني على أفعال مباشرة ومعلنة، لكنه بعد الحرب يتحوّل إلى حرب جديدة تدور رحاها مع الذات، ومع الآخر الذي يُحتسب كشريك أساسي في بلد له ذات الجغرافيا وذات الاسم. والخوف هنا ليس من كلّ ما هو خارج حدودنا الذاتية، ومن الآخر الأقوى، أو الأكثر تحكمًا وتسلطًا، بل قد ينطلق غالبًا من هشاشتنا العميقة والبالغة، والتي تحوّلت إلى معطى ثابت في ذواتنا، ومن تراجع الثقة بالذات وبالآخر، أي آخر مهما أظهر سلميته، ومهما أعلن اندفاعه وحرصه على مدّ جسور المشاركة معنا. وبالتالي، فإنّ التعرّض لأيّ حدث أو شخص خارج دائرتنا الذاتية الضيّقة هو مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولها نتائج خطيرة حكمًا، نخاف منها ومن أصحابها وتنفرد المخيّلة المهزوزة باختراع نتائج وآثار قد تكون كارثية علينا لمجرّد اهتزاز الثقة بالذات، وانطلاقًا من قاعدة أنّ كل آخر هو عدو حكمًا، يُبطن شرًا نحونا ونعجز عن معالجته أو عن ردّه على الأقل.
يتضافر الخوف مع انعدام الثقة بالآخر وبآليات الحماية التي لا يتم إيلاؤها الأهمية المطلوبة لتعزيز العيش المشترك، بحيث تُترك المجتمعات وحيدة لتواجه عملية التعافي المجتمعي بتلقائية بدائية تحدّدها الأعراف أيضًا، والأعراف هنا تدفع الأكثر ضعفًا للانعزال، وربّما للتقاعد، والهرب بعيدًا عن الآخر، مهما حاول مدّ جسور المشاركة أملًا في التعافي عبر تقاسم الخسارات والسعي نحو تقاسم المكاسب، وأهمها التشاركية ونبذ الخوف، خاصة في ظلّ انعدام تثبيت قاعدة أنّ الجميع قد خسر، وعلينا تقاسم الخسارات أولا والاعتراف بها، والسعي لطي صفحاتها القاسية.
يبدو واضحا أنّه، ولتلافي الخسارات، يجب دعم الأكثر هشاشة عبر تعزيز الثقة بأنّه لا نجاة إلا عبر المشتركات بتعزيز الثقة بالذات وبالآخر، ومن هنا تبرز أهمية الاحتفاء بكلّ تفصيل يحمل بين طياته اختلافًا ثقافيًا، أو عرقيًا، أو إثنيًا، لأنه حكمًا هو أحد مكونات اللوحة الكاملة التي لا يمكن النجاة إلا عبرها من الهويات القاتلة.