الشتاء وكسوته الباهظة

11 نوفمبر 2024
+ الخط -

البرد كائنٌ متوحِّش، يهجم فجأةً على فرائسه، لا مقدِّمات ولا إعلانات مسبقة لقدومه. في بلدان الحروب يضحك الناس على أنفسهم، يقنعونها بأنَّ برد هذا العام سيتحالف معهم، سيكون حنوناً ودافئاً! لكنَّ الأجساد لا تصدِّق الروايات الخياليَّة، تشتكي من البرد وتحاول صدَّه أو ردعه على الأقل، تئنُّ الأطراف، يتغيَّر لونها، والأسمال البالية والرقيقة تخسر معركتها مع البرد من الجولة الأولى.

لتدارك الأزمات التي يحاولون التعامل معها وكأنَّها مفاجئة، مع أنَّها طبيعيَّة وتأتي في وقتها المحدَّد كما كلَّ عام، تلجأ العائلات إلى محالِّ بيع ملابس البالة، الأسعار مرتفعة جداً، والباعة مصرُّون أنَّ تكلفتها في سوقها الأصلي مرتفعة أيضاً وكلفة نقلها قد تعادل ثمنها عدا عن الضرائب والرشى غير المباشرة لتمرير البضاعة والتمكُّن من عرضها ودوام بقائها ملكاً لأصحابها خاصَّة أنَّ مصادرتها أمرٌ مشروعٌ ومحميٌّ ولا تبعات قانونيَّة أو اقتصاديَّة ولا حتى إنسانيَّة له.

والجيوب رغم امتلائها عاجزة عن مواكبة الغلاء المتدفِّق كعاصفةٍ هدَّامة، لم يعد ممكناً تدوير الملابس القديمة، ثمَّة ثقوبٌ تعجز إبر الحياكة عن ردمها، تعجز الأجساد عن التماس الدفء من كنزات أو سترات قصيرة وحتى المعاطف وملابس النوم والجوارب والملابس الداخليَّة، تبدو حالة الاهتراء عامَّة وقطعيَّة، لم يبقَ أيُّ شيءٍ قابل للمراوغة أو التحايل! إنَّه العجز في صورته الواضحة، منكمشة، ضيِّقة وقاسية على البدن.

تلجأ بعض السيِّدات إلى الحياكة، حتى إنَّ عدداً من السيِّدات درَّبن أزواجهنَّ المتقاعدين على حياكة جوارب صوفيَّة من بقايا كنزات فقدت قدرتها على البقاء، ولا بدَّ من ذكر تجربة أمِّ غسَّان، وهي أمٌّ لشابين من أصحاب متلازمة داون، درَّبتهما على حياكة الجوارب الصوفيَّة وبعض القطع المطبخيَّة الشعبيَّة لتعرضها وتبيعها في السوق الشعبي القريب من بيتها، كما أنَّها وضعت برسم الأمانة عدداً من تلك القطع المشغولة بأيدي ولديها للبيع بمساعدة أصحاب المحالِّ والبقاليَّات ودعمهم.

لكنَّ ثمَّة مشكلة كبيرة تواجه السيِّدات الراغبات في حياكة ملابس جديدة خاصَّة الكنزات والشالات والقبَّعات من الصوف الجديد والجيِّد، وهي أنَّ البضاعة المتوفِّرة سيِّئة عامةً، وإن توفَّر النوع الجيِّد تكون كميَّته قليلة، مما يجبر السيِّدات على شراء قطعةٍ إضافيَّة قد لا تحتاج إليها لكنَّها تخشى النقص ولو مجموعة من الخيوط وهذا يراكم من الفائض لدى تلك السيِّدات، لدرجة أنَّ إحداهنَّ اختصَّت برسم مسوَّدات لكنزات وقبَّعات متعدِّدة اللون ولجأت إلى الإنترنت للحصول على نقشات وأشكال فنيَّة مبتكرة ومستجدَّة تصنع من المشغولات متعدِّدة الألوان قطعةً فنيَّةً جميلةً وغريبةً وباتت مطلوبةً بشكلٍ واسع.

عدا عن ارتفاع أسعار الأصواف فإنَّ مَن لا تجيد الحياكة يتحتَّم عليها دفع أجرة حياكة مما قد يرفع من قيمة الكنزة المَحُوكة بيد سيِّدة مختصَّة وقد تصل كلفتها إلى ما فوق النصف مليون ليرة. لذلك تلجأ بعض السيِّدات إلى شراء كنزات أو جاكيتات غير صالحة للبس لكنَّ صوفها جيِّد ومن نوعيَّة دافئة وقابلة لإعادة التدوير فيقمن بكرِّها وتحويلها إلى كرات صوف تُحاك من جديد.

الأكثر مدعاةً للقلق والحزن هو ارتفاع قيمة الألبسة الداخليَّة خاصَّة القطنيَّة، وفصل الشتاء يتطلَّب وجود قطعٍ إضافيَّة لتعذُّر جفاف القطع المغسولة بسرعة، مما يضاعف الحاجة إلى المزيد من الملابس الداخليَّة مرتفعة الثمن وسيِّئة الصنع والممزوجة بالنايلون، كلُّ هذا يحوِّل عمليَّة الكساء عمليَّةً بالغة التعقيد، متطلِّبة ومرتفعة الثمن ومكلِّفة نفسياً ومادياً وجهداً إضافياً للتجفيف أو إعادة التدوير أو المجادلة والمفاصلة للحصول على أقلِّ سعرٍ ممكن.

هي الحروب، دوَّامة مستمرَّة ومتنقِّلة من ظروف الحياة القاسية، هي الفصول التي تأتي سريعاً محمَّلة بالخيبات والهموم الثقيلة، لا يكفي لاستقبالها المزيد من الأموال والمزيد من خيبات الأجساد والأرواح.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.