الضّاد بين السّليقة والتّكلّف
من الأمور التي تجد صداها بين النّاس إتقانك الضّاد نُطقًا وكتابةً، فإن كثيرين يدّعون ذلك، لكنّ الحال يكذّب المقال، يمكنك متابعة أحاديثهم أو قراءة تغريداتهم. قديمًا، لم ينخدع النّاس بمؤهل فلان أو نسبه، المحك هو النتاج، لذلك تجد عمّار الكلبيّ -وربّما غيره، حسَب اختلاف المصادر- يقول:
وَلَسْتُ بِنَحْوِيّ يَلُوكُ لِسَانَهُ * وَلكِنْ سَلِيقِيٌّ أقولُ فأعرِبُ
يلوك من لاكَ الشّيء في فمه إذا عَلَكَه، يريد التّصنّع والتّكلّف، وعكس ذلك السّليقة أي الطّبيعة، وَفق صاحب (العباب الزّاخر واللّباب الفاخر)، والسّليقيّ الّذي ينطق بالكلام صحيحًا فصيحًا من دون أن يدرس على شيخٍ أو يتتلمذ بمعلم. لا يقدح ذلك في قيمة التّعليم أو قدر المعلّم، إنما للحثّ على السّعي وطلب العلم، المسألة في مجملها أن الدّافع -المحرّك الدّاخل للإنجاز- أقوى كثيرًا من المحفّز -المحرّك الخارجي للإنجاز- وأبقى أثرًا.
وهذا ابن شُبْرُمةَ يقول: "ما رأيتُ على رجلٍ لِبَاسًا أحسنَ من فصاحةٍ"، وهو القائل "إذا سرّك أن يصغر في عينك من كان عندك عظيمًا، وتعظم في عين من كنت عنده صغيرًا، فتعلّم العربيّة، فإنها تجرّيك على المنطق، وتدنيك من السّلطان".
يعيدك هذا لقول ضمرة بن ضمرة الجاهليّ للنّعمان بن المنذر بن ماء السّماء: "المرء بأصغريه؛ لسانه وجنانه، إن قال قال ببيان وإن قاتل قاتل بجَنان"، هذا المقول يفوق شهادة الدكتوراه التي تسبق تقديم أسماء عدّة تتصدّر للحديث عن الضّاد، وربّما يُضغط عليها إمعانًا في جذب المتلقّي، فإذا تحدّث بعض حَمَلَتها جمع بين الأروى والنّعام، وألّف بين الضّب والنّون!
إن قدرًا لا بأس به من تشرّب علوم العربيّة يأتي من مجالسة أهلها المتمكّنين، أولئك الّذين ينشرون عبقها ويذودون عن حِياضها
وإن من يحصر الضّاد في القواعد، ويُزري على وزارة التّربية والتّعليم في تردّي اللّغة العربيّة ويعلّق على مِشجبها كلّ التّبعات يُغالط نفسه ويخالفه الواقع. كيف؟ أقول لك إن قدرًا لا بأس به من تشرّب علوم العربيّة يأتي من مجالسة أهلها المتمكّنين، أولئك الّذين ينشرون عبقها ويذودون عن حِياضها، تسمع فصاحة أحدهم فتطرب -لعلّك تذكر قِيلة ابن شُبرمة- ثم تسعى لتقليدهم، رويدًا رويدًا تدخل دائرتهم وتترسّم خُطاهم، وأوّل السّيل قطرٌ ثم ينهمل.
وهذا مصطفى لطفي المنفلوطي، وعباس محمود العقّاد، ومصطفى صادق الرّافعي، وإبراهيم المويلحي (المويلحي الكبير)، وحنّا مينه، وأمين يوسف غراب، ممن حملوا راية الضّاد وكتبوا بأساليب ماتعة ولم يحمل أحدهم شهادة، ناهيك بأن يحمل درجة الدكتوراه، أو شهادتين أو قائمة طويلة عريضة من الشهائد والمناصب.
التثقيف الذّاتي مطلوب جنبًا إلى جنب التّعليم النّظامي، وإن شابًا اقتطع من وقته ومجهوده ليتقن فنًّا من فنون الأدب أو اللّغة سيجد الثّمرة، ولو بعد حين، وعندها سينسى أو يتناسى ما كابده من ألم، وسيبقى شذى الرّحيق في أنفه، وطعم الشّهد في حلقه طويلًا، وسيُدرك مقالة أبي حنيفة النّعمان لصاحبه أبي يوسف "الزم الحلقة".