مصطفى البرغوثي... درس إعلامي جديد
تستوحش المجازر الإسرائيلية ضد قطاع غزّة، التي دخلت شهرها الرابع، حيث قتل الاحتلال الإسرائيلي 22 ألفًا و722 فلسطينيًا، وأصاب 58 ألفًا و166 شخصًا آخرين، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، ممن لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلًا. عدد الشهداء والمصابين في زيادة يومية يراها العالم أجمع، لكن "صمت الحملان" متواصل بمساعدة ترسانة إعلامية مغرضة متحيّزة.
وبمنطق "عَيْنَاكَ تَغْلِي وَمَنْ تَشْكُو لَهُ صَنَمُ"، تعاملت المذيعة البريطانية جوليا هارتلي بروير، مذيعة "توك تي في" (Talk TV) مع الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية الدكتور مصطفى البرغوثي. ومع ذلك، لم ينسحب الرجل من المقابلة، وعُوتب على مواصلة الحوار مع إعلامية منحازة حتى النخاع لسردية الاحتلال، إذ قيل له إنه كان يفترض أن ينسحب من اللقاء، لكنه لم يفعل، بل ولا يرفض الحوار مع جوليا أو غيرها.
في مداخلة مع "الجزيرة مباشر"، سأله أحمد طه: "لو دُعيت مرّة أخرى للتحاور مع شخصيات لها موقف ما من القضية الفلسطينية وانحياز للرواية الإسرائيلية، فأنت لا تمانع في ذلك؟"، وأجاب الرجل بأنه يخاطب الجمهور ويسعى لإقناعه، ولا يخاطب ذلك المذيع المنحاز لإسرائيل، ومن ثم يجب استثمار كلّ فرصة للتواصل مع الرأي العام.
وقال البرغوثي إنّه يخاطب الجمهور "بخاصة الجمهور الذي يتبنّى فكرًا غير صحيح عنّا، يجب أن نجابهه بالحقائق، وهذا دورنا. هي معركة أنا أعتبر الإعلام شكلًا من أشكال المقاومة، وبالتالي المسألة هنا ليس ما يعجبني أو لا يعجبني"، غامزًا من قناة تلك الإعلامية المنحازة، قائلًا إنّ اسمها صار مشهورًا الآن، ما يعني أنّه لا وزن لها بالأساس.
عدد الشهداء والمصابين في زيادة يومية يراها العالم أجمع، لكن "صمت الحملان" متواصل بمساعدة ترسانة إعلامية مغرضة متحيّزة
القائلون إنّه من المفترض أن ننسحب من كلّ معركة لم يقدّروا الأمور جيدًا، ولم يحدّدوا الهدف الأساسي من ظهورهم الإعلامي، وعليه فهم يتشنجون سريعًا تاركين الساحة للآخر، يعطونه في الوقت ذاته ذريعة لادعاء صدق ما يروّج له، وفي الأغلب الأعم فإنّ الانسحاب ليس حلًّا.
وتساءل: "لماذا أنسحب؟ لو انسحبت لأثبتّ وجهة نظرها، البقاء والكفاح والتصدي ومخاطبة كلّ وسائل الإعلام، حتى المعادية، أمر مهم حتى نظهر الحقيقة للناس". من نافلة القول، إنّ هدف إدارة الأزمة إعلاميًا وضع الجمهور في الصورة الكاملة وتزويده بالحقائق، وتفنيد حجج الخصم وتفويت الفرصة على من يهرولون لتمرير أكاذيبهم، لن يكون ذلك بالانسحاب أو الصراخ، بل بالمواجهة ومقارعة الحجة بالحجة.
إنّ قول: "فلان انسحب من المقابلة الإعلامية" يفتح النار عليه، وإن كان مصيبًا، إذ إنّ الرسالة تضيع في زخم الانسحاب، ما يتطلّب تحديد الرسالة المراد إيصالها للجمهور، فضلًا عن تحديد الجمهور المستهدف، وتمرير الرسائل بصرف النظر عن موقف المذيع أو الصحافي، لأنّني أريد تسجيل نقاطي وإقناع الجمهور، لا الدخول في جدل بيزنطي.
قد يحمل الصحافي أجندة يحاول تمريرها للجمهور، دور الضيف المحنّك أن يعرّي هذه الأكاذيب، أن يضع الحقائق أمام الرأي العام، وأن يضع الجمهور أمام مسؤوليته الأخلاقية والمجتمعية والإنسانية، إنّها مناظرة مفتوحة يحكّمها الجمهور، المهم أن ننجح في تقديم قضيتنا بطريقة هادئة هادفة.
هدف إدارة الأزمة إعلاميًا وضع الجمهور في الصورة الكاملة وتزويده بالحقائق، وتفنيد حجج الخصم وتفويت الفرصة على من يهرولون لتمرير أكاذيبهم
لو عدنا بالزمن قليلًا، إلى 3 يونيو/ حزيران 2015، لرأينا كيف تعامل الرأي العام البريطاني مع المذيعة البريطانية بشبكة سكاي نيوز كاي بيرلي، إذ استضافت الرئيس التنفيذي لشركة ميرلين إنترتينمنت، نيك فارني، على خلفية حادث ملاهي ألتون تاورز في اليوم السابق.
في الحادث، أصيب 16 شخصًا، بينهم 5 أشخاص إصاباتهم خطرة، بعد أيام أعلن أنّ الشابة ليا واشنطن (18 عامًا) فقدت ساقها اليسرى، فتقمّصت كاي بيرلي دور جيرمي باكسمان وجون همفريز وبيرس مورغان مجتمعين، بينما آلاف الفلسطينيين لم يحرّكوا خصلة واحدة من شعر جوليا هارتلي بروير!
في غضون 24 ساعة، استقبلت هيئة تنظيم قطاع الاتصالات البريطاني (أوفكوم) 1162 عريضة إلكترونية تطالب بالتحقيق مع بيرلي، اجتاحت منصات التواصل موجة من الغضب. وبعد أسبوع، بلغ عدد الموقّعين على العريضة المتذمرة من سلوك كاي بيرلي 27 ألف عريضة، وحقّقت الجهة المختصة معها، قالوا عبر منصة إكس، إنها كانت "غير احترافية، وقحة، متعالية مع ضيفها، قاطعته بشكل متكرّر".
في تقديري الشخصي، تنطبق هذه الصفات على جوليا هارتلي بروير، من ذلك قولها مقاطعةً البرغوثي: "ليس لدينا الوقت للمرور على تاريخ بنيامين نتنياهو كله، وهو ليس شخصية تحظى بشعبية في إسرائيل".
لا يكفي أن تكون صاحب حق، يجب أن تدافع عن حقك، والانسحاب ليس دفاعًا، إنّما إقرار ضمني بقوة حجة الخصم
كذلك قولها غاضبة: "أرجوك لا تكرّر الحديث... ليس لدينا الوقت للحديث عن ذلك. لقد أوضحت هذه النقطة 5 مرات"، في إشارتها إلى حديثه عن السياق التاريخي للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، على هامش عملية "طوفان الأقصى". بلغ السيل الزُّبى في قولها بخنقة وضيقة، مختتمة اللقاء: "آسفة لأن امرأة تتحدث إليك".
بالمنطق ذاته في التعامل مع كاي بيرلي، طالب معلقون ومتابعون بالتحقيق مع جوليا هارتلي بروير، وصدق علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: "أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل".
ليست هذه المرّة الأولى التي يطالب فيها متابعون بفتح تحقيق بحق جوليا هارتلي بروير، ففي عام 2021 أدلت بتصريحات عنصرية بحق دوقة ساسكس، ميغان ماركل، وتعليقات معادية للمثليين عام 2016 خلال حلقة عن اعتداء على نادٍ ليلي للمثليين في أورلاندو في ولاية فلوريدا الأميركية قُتل فيه 50 شخصًا.
على النقيض من جوليا هارتلي بروير، كان البرغوثي حاضر الذهن موفّقًا في تعامله مع أسئلتها المتحاملة وتصيّدها المتكرّر، وكان نيك فارني هادئًا يقظًا أمام أسئلة كاي بيرلي، وأدى مهمته بصورة مثالية.
في المحصّلة، لا يكفي أن تكون صاحب حق، يجب أن تدافع عن حقك، والانسحاب ليس دفاعًا، بل إقرار ضمني بقوة حجة الخصم، حتى وإن رفعت عقيرتك مع صافيناز كاظم "الغِ رحلتي".