عن القراءة وأحوالها... لماذا نقرأ حقاً؟
مع بداية كلّ عام كالعادة وبكلّ سعادة، درج أناس على رصد عدد الكتب التي طالعوها خلال العام المنقضي، يشاركون صورها عبر منصات التواصل مع أحبّتهم، لعله من باب الفخر بإنجازهم، أو لتشجيع آخرين على خوض التجربة، لا بأس في ذلك إلى درجة ما، أو ربّما من باب التباهي الخالص والبهرج الخداع.
تُطالع كثيرين يتبعون هذه الموضة الثقافية إن صحَ التعبير فتشعر بالغربة، غربة الثقافة الحقيقية ومعالمها، صور تقول إنّك ترى الجاحظ وألبرت مانغويل وأضرابهما، صور تحيلك إلى من عرفوا في العصر الحديث بـ "دودة كتب"، لكن الملموس في هذا السياق يشي بظاهرة ما، ظاهرة أشبه ما تكون بالماسح الضوئي (سكانر)، لا تدري أهي قراءة عجلى أم قراءة فهم وتدبّر وتحليل وهضم واستيعاب؟ لا تجد انعكاسًا لقراءات كثيرين على تفكيرهم أو إنتاجهم الملفوظ أو المكتوب.
وغاية المرء مما يقرأ أن يتغيّر للأفضل، أن يصبح أكثر قدرة على هضم الواقع والتعاطي معه، أن تتحسن قدرته على فك طلاسم الأمور من حوله فهمًا وليس بالضرورة تغييرًا، إذ إنّ قضايا عدّة عادلة وواضحة لكنها لم تحظَ بما تستحقه من الإنصاف، القضية الفلسطينية في صدارة تلك الأمثلة.
إذن المحك ليس في مئات الصفحات التي يلتهمها المرء يوميًا، لينتهي به الحال بجبال من الصفحات سنويًا، بل يكون التعويل على النتيجة، القيمة المضافة على المستوى الشخصي والمجتمعي لتلك القراءات، لئلا يجد الواحد نفسه يتباهى بقراءات لا حصر لها وهو لا يُحسن معالجة فكرة أو إدارة موقف عادي من مواقف الحياة!
لن أكرّر نفسي بالحديث عمّا سقته في كتاب "خطوب ودروب"، لكن ما يستأهل التأكيد أنّ شخصية مثل صامويل لانجهورن كليمنس، أو مَن تعرفه أنت باسم مارك توين، قادته قصاصة ورقية إلى دنيا الكتب، قراءة وتأليفًا، كان قبلها صبيًّا صعلوكًا يكره المدرسة ويسعى جاهدًا لقطع كلّ صلة له بالتعليم؛ فقادته قصاصة إلى سحر القراءة ثم دخل دنيا الكتابة الساحرة، وحقّق شهرة طبّقت الخافقيْن.
المحك ليس في مئات الصفحات التي يلتهمها المرء يوميًاً بل يكون التعويل على النتيجة، القيمة المضافة على المستوى الشخصي والمجتمعي لتلك القراءات
صدفة وكتاب صغير الحجم غيّرا مسار رجل ومعه ملايين في أصقاع الأرض، قبل ذلك الكتاب عمل في غير مهنة مؤقّتة؛ بأحد محلّات البقالة تارة، مساعدًا لسائق سيارة نقل كبيرة تارة أخرى، ثم شاءت الأقدار أن يعمل بمكتبة وهو ابن عشرة أعوام أو يزيد قليلًا؛ فماذا كانت المحصّلة؟
وقعت عيناه على كتاب يقال له "إظهار الحق" للشيخ رحمة الله الهندي، كان الكتاب بين أكداس الكتب، عليه من تراب الإهمال الشيء الكثير، غير أنّ الصبيّ أخِذ بهذا العنوان، قرّر أن يعرف هذا الحق، فلما قرأه وقع في قلبه، وعزم أن يُسهم في إظهاره ونشره لخلق الله أجمعين ما وسعه ذلك؛ فكان أحمد ديدات.
وراء القضبان، اختلفت حياة مالكوم إكس وعرف عبر الكتب مسارًا مغايرًا لما كان عليه. الأمثلة على ذلك تفوق الحصر، والخيط الناظم لهذه الأمثلة أنّ أصحابها لم يفاخروا بأرتال الكتب التي التهموها أو طالعوها، إنّما لمسنا تأثير ذلك فيهم وفينا على السواء، وصدق القائل:
فما أحذو لك الأمثال إلا
لتحذو -إن حذوت- على مثال.