الطاقة التّنموية للضعف المجتمعي
سعيد ناشيد
تنطبقُ فرضيّتنا الأساسية، والتي يُمكننا أن نصطلح عليها باسم فرضية "طاقة الضُّعف"، على مجالات التنمية أيضًا، حيثُ بإمكاننا أن نلاحظ أنّ العوائق والمشاكل ونقاط الضعف تختزن قدرًا هائلًا من الطاقة الكامنة والتي يمكن استخراجها واستعمالها لأجل الرّفع من وتيرة التنمية في المجتمع، بعيدًا كلّ البُعد عن الإنكار الذي مارسته مجتمعات أزمنة الغزو ظنًّا منها أنّ نقاط الضعف مجرّد "عورات" ينبغي سترها عن الأعداء. ذلك أنّ في كلّ ضعف مجتمعي طاقة تنموية كامنة، وقد تكون هائلة في بعض الأحيان.
هناك أكثر من مثالٍ للاستدلال:
في مجتمعٍ تكثرُ فيه الأمّهات الأمّيات قد يُمثّل الأمر عائقًا أمام التنمية البشرية، وفي مجتمعٍ تتّسم فيه الروابط الاجتماعية بالضعف والهشاشة قد يكون ذلك عائقًا أمام التنمية المحلية، وفي مجتمع تكثر فيه المناطق القاحلة قد يكون الأمر عائقًا أمام التنمية المستدامة، إلّا أنّ تلك العوائق كلّها قد تُمثّل في الآن نفسه قوّة دفع لأيّ مشروع تنموي، ذكي وهادف. لأجل ذلك يكفي أن نعيد النظر في نظرتنا إلى الضعف، وذلك تبعًا لفرضيتنا الأساسية.
كيف ذلك؟
أوّلاً، بخصوصِ كثرةِ الأمهات الأمّيات، تلك الظاهرة التي قد تعيق التنمية البشرية بالفعل، فإنّها قد تمثّل في الآن نفسه قاعدة انطلاق تنموي بما يجعل المشكلة جزءًا من الحل. لذلك تكمن عبقرية الخبير الاقتصادي الدّولي محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل، في قراره الشجاع بمنح أولى قروض "بنك الفقراء" في بنغلاديش للأمّهات الفقيرات واللواتي معظمهنّ أميّات، ليس رأفة بهنّ أو تحيّزًا إلى مقاربة النّوع، بل من باب أنهنّ الأكثر قدرة على استعمال المال لأجل تحسين ظروف الحياة الأسرية، ومن ثم اختصار الطريق إلى التنمية الاجتماعية.
في كلّ ضعف مجتمعي طاقة تنموية كامنة، وقد تكون هائلة في بعض الأحيان
والواقع أنّ كثيرًا من المبادرات التي يدرجها البعض ضمن إنصاف المرأة ينبغي اعتبارها رهانًا على قوى أقل تجرّؤًا على الظلم والتسلّط وتبذير المال العام، وأكثر التزامًا بتحسين حياة الأطفال، ومن ثم الأجيال الصاعدة.
ثانياً، بخصوصِ ضعف الروابط الاجتماعية، والتي قد تُمثل عائقًا أمام التنمية المحلية، فإنّها قد تحمل بين طيّاتها طاقة هائلة لانطلاق تنموي ملائم، وذلك أخذًا بعين الاعتبار ما قاله عالم الاجتماع الأميركي، مارك غرانوفيتر، حين برهن على أنّ الروابط الاجتماعية الضعيفة (العابرة، العرضية، الهشّة، القائمة على علاقات الدراسة والعمل والأندية والصداقة والحبّ، أو القائمة على الهجرة واللجوء) تتفوّق على الروابط الاجتماعية القوية (روابط القرابة والدم) في قدرتها على ضمان تبادل المعلومات والمعرفة والتجارب بنحو يحقّق النمو المتبادل للأفراد كافة، ويساهم في التنمية المحلية.
ثالثاً، أمّا بخصوصِ الأراضي القاحلة التي قد تعيق التنمية المستدامة، فإنّها من وجهة نظر فرضية طاقة الضعف قد تمثل في الآن نفسه أكبر مورد عالمي للطاقة البديلة، الشمس، الرياح، إلخ.
على المنوال نفسه قد نجد عشرات الأمثلة في مختلف مجالات التنمية، والتي تبيّن أنّ في كلّ ضعف هناك طاقة كامنة، وأنّ التنمية في آخر المطاف هي ثمرة ذكاء الإنسان في توليد الطاقة من الضعف.
توليد الطاقة من الضعف ليس عملًا سهلًا، إذ يتطلّب ذكاءً خاصًّا يقوم على ثلاث مهارات: التركيب والمرونة والتكيُّف
"خُلق الإنسان ضعيفًا" كما يقول الخطاب القرآني، هذا صحيح، لقد خُلق الإنسان لكي يعيش في بيئة شرسة، لكنه بدون مخالب، بدون فرو، بدون ريش، بدون أنياب، بدون قرون، وبدون مناعة قوية، إلّا أنّ هذا الضّعف الخِلقي هو الطاقة المحرّكة لتطوّر الحضارة البشرية منذ ظهور الإنسان العاقل.
بل الضعف هو البدء والمبدأ.
في كلّ فراغٍ فيزيائي هناك طاقة كمومية لا محدودة.
في كلّ عجز اقتصادي هناك طاقة تنموية ممكنة.
في كلّ إعاقة جسدية هناك طاقة أحلام هائلة.
في كلّ مكامنِ الضعف الإنساني هناك طاقة نموٍّ كامنة.
صحيح أنّ توليد الطاقة من الضعف ليس عملًا سهلًا، إذ يتطلّب ذكاء خاصًّا يقوم على ثلاث مهارات: التركيب والمرونة والتكيُّف. وهذا لا نكتسبه داخل أسوار المدرسة لكنّنا قد نكتسبه في مدرسة الحياة، إنّه ليس بالتمرين الهيّن، إلّا أنّه فرصة الضعفاء، فرصتك أيّها الإنسان الضعيف.
كلّ عائق في طريقك لا تستطيع إزاحته، أو أنّ جهد الإزاحة سيستنزفك، بإمكانك إعادة استعماله بمرونة كقوة دفع لصالحك، تمامًا مثلما يستعمل البحار الجيّد الرياح غير المناسبة بتعديل الأشرعة بدل أن يقعد منتظرًا الرياح المناسبة.