كينونة العاشق ووهم إثبات الذات
سعيد ناشيد
معظمُ العلاقاتِ اليوميّة بين الناس في مختلف مناحي الحياة، هي علاقات سلطة وتنافس محموم حول من يستطيع إثبات الذات أكثر من غيره، من يستطيع أن يحقّق وجوده على حساب وجود غيره، وبالأحرى من يوجد أكثر؟
ويكفي النظر إلى أيِّ مجموعةٍ تتبادل أطراف الحديث حتى نلاحظ ذلك التنافس المحموم حول من يحتكر الكلام لأطول مدّة ممكنة، من يجلب الأنظار ويثير الانتباه أكثر من غيره، من يكون كلامه أكثر إثارة للضحك أو الحزن أو الغضب، بمعنى من يثبت ذاته داخل المجموعة أكثر من غيره وأطول مدّة ممكنة، وفي النهاية من يوجد أكثر؟
المبدأ نفسه في كلِّ من المنافساتِ السياسيّة، المباريات الرياضيّة، المسابقات المدرسيّة، وعلاقات المهنة والعمل، من يُقصي غيره لكي يثبت ذاته ويفرض كينونته؟ من يستطيع أن يوجد على حساب غيره؟ من يستطيع أن يزيح غيره لكي يوجد أكثر من غيره؟ واختصاراً للقول، من يوجد أكثر؟
يبدو واضحاً أنّ معركة إثبات الذات هي المحرّك الأساسي لعلاقاتِ التجاذب والتنافر بين البشر كافة، وفي مختلف مناحي الحياة، والواقع أنّ معركة إثبات الذات بقدر ما ساهمت في الإبداع والاكتشاف والاختراع، فقد أشعلت في المقابل أكثر الحروب والفتن شراسة، لا سيما بعد أن أوشكت معركة إثبات الذات على اقتحامِ كلِّ مجالاتِ العلاقات الإنسانيّة.
لكن، هل هناك من استثناء ممكن؟ نعم، وهذا لحسن الحظ، إنّه مجال الحب.
يُفترض أن يكون الحبّ بمعناه الأكثر أصالة هو العلاقة الإنسانيّة الوحيدة التي يتخلّى فيها الإنسان طوعاً عن الحاجة إلى إثبات الذات، لكي يصقل القدرة المعاكسة على نفي ذاته. علماً بأنّ نفي الذات هو القدرة الحقيقيّة التي نحتاج إليها في معظم معارك الحياة.
معركة إثبات الذات بقدر ما ساهمت في الإبداع والاكتشاف والاختراع، فقد أشعلت في المقابل أكثر الحروب والفتن شراسة
والحال أنّ كثيراً من معارك الحياة لا يمكن الانتصار فيها عن طريق إثبات الذات، بل العكس تماماً. يمكنني أن أستدل برقصةِ مصارع الثيران على سبيل البرهان، حيث لا يتصدّى المصارع للثور الهائج عن طريق إثبات الذات، بل العكس، كلّ ما يفعله أنّه يسحب نفسه في الوقت المناسب، لكي يجعل الثور يسقط في الفراغ، ذلك في الوقت الذي يسعى فيه الثور إلى إثباتِ ذاته، إلى أن يستنزف طاقته، ثم يسقط صريعاً في الأخير.
لغاية التخلّي عن إثبات الذات، يمثّل الحبّ أصعب تمرين، لا سيما بالنسبة للرّجل، والذي كثيراً ما يستهويه دور الثور أمام ثوب المرأة "الأحمر".
معضلةُ الرجل هي التعامل مع الجنس باعتباره فرصة لإثبات الذات، لا سيما في مجتمعاتِ القهر، حيث تصبح المغامرات الجنسيّة مناسبة للتعويض عن الكرامة المنتهكة: أنت الأوّل، أنت الأفضل، أنت الأفحل، أنت الفارس المقدام، لا أرى سواك حتى في الأحلام، إلخ. لعلّها عبارات مفيدة في اللعبة الإيروتيكية، إلا أنّ الإصرار على إثباتِ الذات ينسف الحبَّ، والذي هو لعبة من نوع آخر، إنّه اللعبة الوحيدة التي تخلو من إرادة السلطة.
الحبُّ الحقيقي هو أن تعانق معشوقك دون أن تُضيّق عليه الخناق
الحبُّ الذي يطلب منك إثبات ذاتك ليس حباً، بل علاقات سلطة باسم مستعار. الحبُّ لا يطلب من العاشق العمل على إثبات الذات، بل يطلب منه عكس ذلك، العمل على مواصلةِ النمو والارتقاء دون حاجةٍ إلى وهم إثبات الذات.
الحبُّ الحقيقي هو أن تُعانق معشوقك دون أن تُضيّق عليه الخناق، بل تجعله يشعر بسعةِ الكون بأكمله بين أحضانك. ومن ثم يردّ إليك في الحال ما تمنحه إياه. إنّها لعبة الحبّ بالمعنى الأكثر أصالة.
الحبُّ إذن قدرة ذاتية قبل أن يكون شيئاً نفتّش عنه في الخارج، هو اشتغال على الذات قبل أن يكون انشغالاً بترصّد بعض الأجساد هنا أو هناك، من أجل لا شيء في النهاية، ومن أجل رصيد من القصص يساوي صفراً مهما قيل عنه.
يُقال فاقد الشيء لا يعطيه، أقول، بل أكثر من ذلك، فاقد الشيء لا يعثر عليه، ذلك أنّ الإنسان لا يعثر في النهاية إلّا على ما فيه.