العلاقات الحميمية وقلق ما بعد الأورغازم
سعيد ناشيد
حين نبحث عن الجنس فإننا نعرف عن ماذا نبحث بالضبط؟ نعرف إلى أين نريد الوصول؟ حيث إننا نتجه رأسًا نحو الأورغازم، سواء بعجلة من أمرنا أو على مهلٍ، أو حتى مع وقف التنفيذ في بعض الأحوال، لكن عن ماذا نبحث بالضبط حين نبحث عن الحب؟ لماذا نتحمّل عناء البحث المُضني عن الحبّ حتى عندما يكون لدينا ما يكفي من الجنس، وما يكفي من السرير؟ وبالتالي، هكذا هو السؤال: لماذا لا يكفينا الجنس؟
داخل نشوة الأورغازم نفسها يكمن سرّ الإلحاح في البحث عن جنسٍ مشفوع بروحانية الحبّ، وهو ما يجعل حتى الإنسان المتديّن جدًّا، والذي يؤمن إيمانًا راسخًا بتحريم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، قد لا يغمره أدنى شعور بالذنب حين يمارس الجنس مع شخص يعشقه بكلّ عمقٍ وصدق وصفاء. روحانية الحبّ إذن هي شفاعة تُرجى لكلّ العشاق، بمن فيهم المتدينون طبعًا، ولا ننسى العاشقات المتدينات بالأولى! هل هناك من تجرؤ على الإنكار!؟
هدفُ الدافع الغريزي البيولوجي هو الأورغازم الذي يلح بنحو آني وبالإمكان تلبيته على الفور، كما أنّ غايته المثلى بقاء النوع البشري، إلّا أنّ الطبيعة التي تقدّم لنا الأورغازم كإغراء سحري، سرعان ما تترك لنا خيبة الأمل عقب القذف الذي هو أقصى ما تبحث عنه، وذلك حين يفتر القضيب المُنتصب ويجفّ المهبل اللزج وينقطع الشريط الرومانسي فجأة، ويدير كلّ واحد ظهره للآخر قبل أن يسلّم نفسه لعالمه الداخلي.
خيبة الأمل الإيروتيكية لا تنبع من الدافع الغريزي البيولوجي الذي يكون قد قضى وطره كما ينبغي، بل تنبع من الدافع الروحي الذي لا يستوفي حقّه حين يغيب الحب
خيبة الأمل الإيروتيكية تلك لا تنبع من الدافع الغريزي البيولوجي الذي يكون قد قضى وطره كما ينبغي، بل تنبع من الدافع الروحي الذي لا يستوفي حقّه حين يغيب الحب، وهو ما يفسّر وخز الضمير الذي ينتاب الكثيرين مباشرة عقب الأورغازم، سواء تمّت العملية في إطار الزواج أم خارج الزواج، على أنّ مشاعر الذنب هنا لا علاقة لها بالدين والقيم كما قد يتراءى للبعض، بل لها علاقة بأجندة الطبيعة نفسها، وبحيث لها جذور أعمق من الديانات نفسها. ذلك أنّ الأمر شبيه بتحريم زواج المحارم، والذي يتسبّب في مشاكل جينية بالفعل، لذلك، بصرف النظر عن فرضية قتل الأب البدائي لدى فرويد، فالواقع أنّ مشاعر الذنب تجاه زواج المحارم تنبع من المشيئة التطورية للحياة.
وخزة الذنب التي قد تعقب الأورغازم لا ينبع مصدرها من الدين أو الطابو أو السلطة الرمزية للأب، أو ما شابه ذلك، وإلا لكانت ستستمر حتى حين يأتي الجنس مشفوعًا بالحبّ الخالص، ولما كانت تصيب الأزواج الذين يهجر الحب مضاجعهم، بل تنبع من حالة الفراغ التي تعقب الأورغازم حين لا يستطيع الجنس أن يلبي الدافع الروحي أيضًا. وخزة الذنب تلك هي خيبة المشيئة التطورية للحياة حين يغيب الحبّ أو يفتر، فيؤثر ذلك سلبًا على جودة عملية التناسل نفسها.
لذلك، فإنّ ردود الفعل الحميمية للشريك مباشرة عقب الأورغازم هي الاختبار الأكثر بداهة لطاقة الحب. لعله اختبار قاس أحيانًا، محرج أحيانًا أخرى، لكنه كاشف في كلّ الأحوال، وينبغي أخذه على محمل الجد.
إنّ مشاعر الذنب التي قد تغمر بعض الذوات عقب نشوة الأورغازم لا تدل على الوفاء لتجربة سابقة كما قد يتصوّر البعض، لا تدل على الوفاء لقيم الزهد والتحريم كما قد يتراءى للبعض الآخر، بل تدل بكلّ بداهةٍ على الفراغ الروحي الذي يعقب انقطاع اللذة البيولوجية، وذلك حين لا يكون الحب حاضرًا كما ينبغي، حين لا يكون الحبّ صادقًا كما ينبغي، حين لا يكون الحبّ حقيقيًا كما ينبغي.
كثيرًا ما تنتابنا لحظات من فقدان المعنى، فيكون الحبّ وقتها هو الطاقة البديلة عن أزمة المعنى
الذي تطلبه الطبيعة من الإنسان ليس أن يتناسل وحسب، ليس أن يتكاثر وحسب، بل أن ينمو في كلّ لحظةٍ من لحظات حياته، وإلى الرمق الأخير. إلا أنّ القدرة على مواصلة النمو في هذه الحياة العابرة تحتاج إلى امتلاك معنى للحياة، ومعضلتنا أنّ كلّ المعاني المُمكنة لا تقنعنا بما يكفي، لذلك كثيرًا ما تنتابنا لحظات من فقدان المعنى، فيكون الحبّ وقتها هو الطاقة البديلة عن أزمة المعنى، وذلك لغاية مواصلة النمو.
هذا ما يقوله العاشق المخلص: سأحاول أن أحقّق أفضل نسخة مني في هذا المجال أو ذاك، سأحاول أن أحقّق كلّ الانتصارات الممكنة في هذا المجال أو ذاك، وذلك لأجل أن أحظى بإعجاب الجميع، إلا أنّ إعجاب المعشوق يعوّض الجميع.
قديمًا، في ملحمة الأوديسة، ما إن انتهت حرب طروادة حتى بدأ البطل المحارب أوديسيوس يشق طريق العودة إلى زوجته، ورغم أهوال الطريق التي لا تنتهي، رغم كلّ المجد الذي خلّد ذكره في التاريخ، رغم إغراء الحياة الأبدية الذي قدّمته إحدى الحوريات، إلا أنّه أصرّ على مواصلة الطريق نحو المرأة التي كانت نظراتها إليه تعني كلّ شيءٍ.