المتجمّلات بأدوات الجرّاح ووجوه بيكاسو
بشكل ما، نحبّ الجمال. نميل معه كما تميل زهرة دوّار الشّمس. ونحبّ أيضاً، بالمقدار ذاته، أن نكون على قدر مُرضٍ منه. أن نُظهر جمالًا ما، فينا. لسنا إذن، أقلّ نرجسيّة من الطبيعة. إننّا جزء من هذا الكون. والكون حسب الفيلسوف غاستون باشلار "مصاب، بمعنى من المعاني، بالنّرجسية. الكون يريد أن يرى نفسه".
غالبًا ما ارتبط جمال الإنسان بتفاصيلِ جسده، جسد المرأة تحديداً. فقد قيلت فيه الأشعار وسوّرته الحُلي ونحتته الأزاميلُ. تلك الرّقة البادية، النّعومة، وانحناءات الجسم الأنثوي، لم تأسر الرّجل فقط؛ بل والمرأة أيضاً، قد تقع أسيرة صورتها الخاصة بدافع نرجسي غريزي. يحدث ذلك عند أوّل نظرة حسيّة إلى المرآة في سنّ المراهقة، السّن التي تبدأ فيها حقيبتها المدرسية، على غير العادة، بابتلاع أدواتِ التجميل السريّة.
هنا، في أغلب الحالات لا يقتصر الموضوع على جذبِ اهتمام الآخرين، أي على هدفٍ خارجي؛ برأي كانط (مُتفلسفاً في مسألة الجمال) يمكن أن يكون ذلك بحثاً عن الرِّضى الداخلي والانسجام الشّخصي والتوازن.
هذا ما هي عليه الأمور منذ القديم؛ أمّا اليوم، فالأمر أكثر تعقيداً، وثقلاً أحياناً، بالنّسبة لفتاةٍ في مثل ذلك العمر، كما لامرأةٍ ناضجة، حيث يلعب المجتمع الاستهلاكي والميديا دورهما في دفع النّساء إلى الهوس بتفاصيل أجسادهنّ، مع دفعهن بالمقابل إلى عدم الرضى عن أنفسهنّ، وإذكاء رغبتهنّ المتعطّشة إلى جعلِ الجسمِ جميلاً وفق مقاييس محدّدة.
رغبة دفينة في تحويل الافتراضيّ المثاليّ إلى واقعيّ ملموس
لا يكفّ هذا الهوس عن التعبير عن نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي، يمكنك أن تلحظ ذلك، حيث الصورة هي الأهم. يخضع بعضها للتطبيقات المحسّنة التي يتمّ تنزيلها بغرض تحسين الملامح أو حتى تعديلها واللّعب عليها بالكيفيّة التي تجعل منها طرفة أحياناً، أو غرضاً للفت الانتباه. وكل منهما في الحقيقة يخفي رغبة دفينة في تحويل الافتراضيّ المثاليّ إلى واقعيّ ملموس.
يعرف أباطرة الجراحة التجميلية، كما شركات مواد التجميل قبلهم، علاقة المرأة بجسدها، وحرصها الدائم على شبابه وفتنته. لذلك يجدون في هذا الأمر شيئاً يمكن استثماره والرّبح منه. فيقنعون النساء السليمات بأنّهن مريضاتٍ، وفي حاجة إلى المساعدة. إقناعهن مثلاً بمحاربة التجاعيد كما لو كانت سبباً في ضعف الثقة بالنفس وفشلاً وظيفياً في الجسم، أو بالتخلّص من شكل الشّفاه الرقيقة كما لو أنّها تسبّب عقداً نفسية للفتاة، لذلك تسلِّم الواحدة منهنّ جسمها طوعاً (في خضوع محزنٍ لمعايير الجمال الرّاهنة) إلى حُقن حمض الهيالورونيك للحصول على شفاهٍ ممتلئة، أو إلى شفرات الجراحة التي تبدأ في تمزيقِ الجسد السّليم بشكل منفّر لحشو الأرداف والصدر بأجزاء غير حقيقية من حشوات السيليكون بغرضِ التكبير، أو إلى عملية تدوير الدهون والنخر، أو حتى البتر لجزء من الأطراف كالأنف مثلاً، مع ما قد يشكّل ذلك من مضاعفات خطيرة وتشوّهات مستديمة، تعرف نسب ضحاياها ارتفاعاً يوماً بعد يوم. والدليل على ذلك نسبة الانتحار المتزايدة مع حالات الاكتئاب. فقد وجد الباحثون أنّ المرضى غير الرّاضين عن الجراحة قد يطلبون تكرار الإجراءات أو يعانون من الاكتئاب ومشاكل التكيّف والعزلة الاجتماعية والمشاكل العائلية وسلوكيات التدمير الذاتي والغضب تجاه الجرّاح والممرضين. وذهبت بعض الدّراسات إلى حدِّ ربط عدم الرضا عن إجراءات الجراحة التجميلية بالانتحار. لكن، بالرغم من ذلك، تمتلئ العيادات بالمزيد من طالبات المظهر، على المقاس الجمالي الاجتماعي ذاته. إنهنّ يبحثن عن وسيلة كهذه لتغيير مظهرهن الطبيعي الفريد حتى يحصلن على هذا الجمال المصطنع، دون أن يدركن في الحقيقة تلك الخطورة.
المرضى غير الرّاضين عن الجراحة التجميلية قد يطلبون تكرار الإجراءات أو يعانون من الاكتئاب ومشاكل التكيّف والعزلة الاجتماعية والمشاكل العائلية وسلوكيات التدمير الذاتي
قد تكون عملية التجميل معقولة في وجود إعاقة أو تشوّه؛ أما إجراؤها بدافع حصول المرأة على أنف نظير لأنف الممثلة أمبر هيرد، أو شفاه كايلي جينر، أو صدر صوفي هوارد، فهو لا يعكس إلا عدم الثقة بالنّفس، وإرضاء النزوات والغرور ومحاولات بلوغ جمال لن يُنال. يعبّرُ عن ذلك بالقطع فشل العمليات المتتالية من أجل تصحيح بعضها البعض دون جدوى، حيث يصل الأمر بطالبات الجمال إلى حدودِ البشاعة.
لكن ما يدعو للتعجّب حقّاً، هو ما نسمعه عن تباهي بعض النساء بعددِ العمليات التي أجريت على أجسادهنّ، مع إحساس بالرضا عن النّفس رغم كلّ ذلك التنكيل بهويّة الوجه. وقد مُحيت ملامحهنّ تماماً، واستبدلت بوجوهٍ متشابهة، جامدة، منفّرة، وفي عبوس دائم، حيث الابتسامة فيها شبه مستحيلة، وكما لو أنّ لكمات لامرئية انهالت عليها بلا رحمة، فتركت الشّفاه متورّمة وعظام الخد بارزة.
بدعابة ساخرة تعلّق الممثلة الكوميدية الأميركية، ريتا رودنر، على هذا الوجه الموحّد الذي جاد به عصرنا: "كنت سأجري عملية تجميلية حتى لاحظت أنّ عيادة الطبيب مليئة بوجوه بيكاسو". ربّما لو خرجت النساء من العيادة بوجوهٍ تكعيبية لبيكاسو لجسّدن، وإن بشكل غريب، أحد الأساليب الفنيّة عبقرية؛ لكن أن يقبلن في زهو حمل هذا الوجه العدمي ذا التكاليف الباهظة الذي منحته لهنّ بلاهة الرأسمالية الشرهة، فذاك هو الجنون الذي لم يكن لأحد تصوّره.