بديع الكسم... الفيلسوف المعلم
بمناسبة عيد المعلِّم السوري الذي يصادف سنويًّا ثالث يوم خميسٍ في شهر آذار/ مارس، أودّ أن أقدّم بعض انطباعاتي الذاتية عن الراحل محمد بديع الكسم، وأذكِّر به، بوصفه أحد الفلاسفة والأساتذة الذين تعلّمت منهم، وتعلقت بهم، معرفيًّا وأخلاقيًّا ونفسيًّا.
كنت أحد طلاب الدفعة الأخيرة التي قام الكسم بتدريسها في دبلوم الدراسات العليا في قسم الفلسفة في جامعة دمشق في العام الدراسي 1998-1999. وقد اشترك الكسم مع الدكتور صادق جلال العظم في تدريسنا مادة "الفلسفة الغربية والمنطق". وقد اختار العظم، آنذاك، تدريسنا جزءًا من "جمهورية أفلاطون"، في حين اختار الكسم تدريسنا بعض نصوصه الفلسفية المنشورة في كتاب يحمل اسمه. وقد كانت محاضرات الكسم (والعظم) في تلك المادة من أغنى وأمتع المحاضرات التي تلقيتها في دراستي الجامعية، في سورية وفرنسا، على حدٍّ سواء. والغريب والمؤسف، في هذا السياق، هو أنَّ هناك من "تطوّع" لكتابة "تقريرٍ أمنيٍّ" في صيغة شكوى صحافية مقدّمة من "مجهولةٍ"، للاعتراض على قيام الكسم بتدريسنا النصوص المذكورة، مع العلم أنها كانت من أغنى النصوص الفلسفية التي درسناها ومن "أكثرها فلسفيةً". وأذكر أنّ الكسم بدا حزينًا وغاضبًا ومحبطًا حين معرفته بذلك "التقرير الكيدي". وكما هو متوقعٌ ممن سمي ﺑ "الفيلسوف الصامت" لم يعبِّر الكسم عن مشاعره بكلماتٍ "كثيرةٍ"، وإنما اكتفى بالتعبير بملامح تظهر نفوره، وما يشبه اليأس، من الأوضاع التي سمحت بوجود مثل هذا التقرير، أو أفضت إلى وجوده.
حدث ذلك قبل عامٍ تقريبًا من وفاته التي حصلت عام 2000. وعلى هذا الأساس وغيره، لا أستبعد أن يكون الدكتور مراد وهبة على حق في اعتقاده أنّ الكسم "مات يائسًا". وعلى الرغم من أنّ التصوّر الذي يتبنّاه الكسم للفلسفة يمكن أن يؤدي، من منظور العظم، إلى "أعماقٍ مرعبةٍ من اللاعقلانية المتطرفة والعدمية المغلقة واليأس المطبق"، فإنّ نصوصه الفلسفية القليلة جدًّا عمومًا، ونصه الفلسفي الأبرز "البرهان في الفلسفة" (الذي كان رسالته في الدكتوراه التي نالها من جامعة جنيف)، بعثت الأمل في وجود إسهامٍ عربيٍّ في الفلسفة المعاصرة إلى درجة القول إنّ الرسالة تمثل عودة العرب "بعد غيابٍ طويلٍ إلى الإسهام في العمل الفلسفي، وبالتالي إلى القيام بدورهم في بناء الحضارة الإنسانية". وقد كانت قراءتي لتلك الرسالة (بعد ترجمتها إلى العربية باقتدار من قبل جورج صدقني ونشرها من قبل وزارة الثقافة السورية عام 1991) تجربةً فريدةً قد لا تشبهها إلا تجربة قراءتي لنصوص نيتشه. ففي الحالتين، استفزتني تلك القراءة، وأثارت تفكيري وانفعالاتي، ودفعتني إلى إعادة التفكير أو الإمعان فيه في خصوص الكثير من المسائل الفلسفية "القحة". في ذلك النص الفلسفي الخالد، يغيب أو يُغيَّب التاريخ، لتحضر الفلسفة بوصفها الميتافيزيقا، أي بوصفها "البحث عن أكثر الحقائق أهمية في حياة الإنسان الروحية". ثمّة انتقاداتٌ كثيرةٌ يمكن توجيهها إلى "فلسفة الكسم"، تبدأ بلا-تاريخيتها ولا تنتهي بذاتويتها ونفسانيتها، لكن كلّ تلك الانتقادات، وغيرها، لا تقلّل، من وجهة نظري، من فلسفية تلك الفلسفة، ولا من غناها بالكثير من الأفكار المثيرة والمهمة والمعلومات النادرة الوفيرة والمفيدة.
نصوص الكسم الفلسفية، والقليلة جدًّا عمومًا، ونصه الفلسفي الأبرز "البرهان في الفلسفة" بعثت الأمل في وجود إسهامٍ عربيٍّ في الفلسفة المعاصرة
في السنة التي درَّسني فيها الكسم لم تكن صحته الجسدية أفضل حالًا بكثيرٍ من صحته النفسية. وبدا، في بعض الأحيان، أنه من الأفضل للكسم ألا يتعب نفسه بالعمل التدريسي، وأن يحافظ على صحته بعيدًا عن متطلبات العمل. لكن كان هناك أقاويل إنه كان مضطرًا للاستمرار في العمل الجامعي لأسبابٍ ماليةٍ. وعلى الرغم من كلّ ذلك وغيره، كنت حريصًا على حضور كلّ محاضراته. لكن كانت هناك صعوبةً في التواصل معه بسبب وضعه الصحي عمومًا، وبسبب أنه فقد بعض قدراته السمعية. وأذكر أنني زرته مع بعض طلاب الدبلوم في بيته بعدما غاب عن إحدى المحاضرات لأسباب صحية مرتبطةٍ بتعرّضه للدوخة والوقوع المفاجئ أرضًا. ولم تكن بعض أسئلته أو أسئلة زوجته أثناء تلك الزيارة بأسهل من بعض أسئلته في المحاضرات الجامعية. ففي المحاضرات الجامعية كان يسألنا، على سبيل المثال، عن اللغة الأجنبية التي نتقنها، حتى يستطيع أن ينصحنا بالمراجع الملائمة للأبحاث الجامعية التي نودّ كتابتها في ذلك العام. ولم يكن الكسم المتقن لأكثر من لغة أجنبيةٍ (كالفرنسية والإنكليزية) والملم بلغاتٍ أجنبيةٍ أخرى، بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية لدرجةٍ جعلته أحد أعضاء مجمع اللغة العربية في دمشق يعلم، أو يريد أن يعلم ويصدِّق، أنّ أغلب الطلاب، على الأقل، لا يتقنون أي لغةٍ، بما في ذلك لغتهم الأم. أما في أثناء زيارتنا إلى بيته فقد سئلت عما إذا كنت أتقن العزف على البيانو، أو إن كنت راغبًا في (تعلّم) إتقان ذلك العزف. بدا لي السؤال طريفًا، لأنّ الآلة الموسيقية الوحيدة التي جربتها كانت هي "الدربكة"، ولأنّ أوضاعي المادية دفعتني آنذاك إلى العودة إلى مهنتي القديمة (بائع بسطة أو بسطاتي) والتبسيط في شارع النصر لبيع الأحزمة (غير الناسفة).
في امتحان الدبلوم الخاص بالمادة الدراسية التي درَّسنا إياها الكسم والعظم، دخل الكسم إلى القاعة واقترب مني وهمس في أذني "درويش، بس تخلص امتحان مر عليّ في المكتب لأنني أريدك في أمرٍ ما". غمرتني فرحةٌ عارمةٌ لمجرَّد معرفتي أنه يعرف اسمي ويتذكره ويتذكرني، لأنني كنت أظن أنه لم يعد قادرًا على الدخول في أي علاقةٍ شخصيةٍ والتعارف مع أشخاصٍ جددٍ. وقد سألني حينها عن النصوص التي قام العظم بتدريسها لنا، لأنّ العظم كان قد غادر سورية، وكان مطلوبًا من الكسم تصحيح أو تقييم كلّ الإجابات الامتحانية في المادة المذكورة. وقد كانت تلك المرة الأخيرة التي ألتقيه فيها. وقد قمت، لاحقًا، بإرسال رسالةٍ إليه طالبًا مساعدته في التغلّب على ما بدا لي أنها عقباتٌ بيروقراطيةٌ لا معنى إيجابيّ لوجودها. لم أكن أتوقع أن يرد الكسم على رسالتي أو أن يكون قادرًا على مساعدتي، ولم أترك له، أصلًا، مجالًا للقيام بمثل ذلك الرد؛ لكنني شعرت بإغراء أن أشاركه بعض همومي وشجوني، وأن أستند إلى رؤيته الفلسفية الأخلاقية، في الاحتجاج على المسبّبات البيروقراطية لتلك الهموم والشجون.
"الحب وحده هو الذي يستطيع أن يهزم الموت"، هذا ما شدّد عليه الكسم وآمن به
لدي شعورٌ بأنني التقيت بالكسم "بعد فوات الأوان"، وأنه لو أنني التقيت به في وقتٍ أبكر لأمكنني أن أناقش معه أفكاري النقدية عن كتاباته وأطروحاته الفلسفية. وعلى الرغم من "فوات الأوان المذكور"، فقد استندت إلى بعض أفكاره وطروحاته في بعض نصوصي المنشورة، وأظن أنّ إمكانات الاغتناء بفكره وإغنائه ما زالت كبيرةً، وآمل أن أستثمر تلك الإمكانات مستقبلًا.
رأى الكسم في التدريس والتربية والتعليم رسالةً نبيلةً مقدسةً، وفي طلابه "أسرته الكبيرة"، وكان حريصًا على متابعة كلّ المستجدات الفكرية والفلسفية العالمية، وعلى إغناء طلابه مما اغتنى به. وعلى هذا الأساس، وغيره، يمكن القول إنه كان مَعلمًا في التعليم وفي التفلسف أيضًا.
"الحب وحده هو الذي يستطيع أن يهزم الموت"، هذا ما شدّد عليه الكسم، مع كثيرين. وأنا أحببت الكسم الفيلسوف والإنسان، وهذا هو أحد أسباب بقاء أفكاره وذكراه حاضرةً لدي، حتى بعد رحيله.