خضر عدنان... من أين أتيت بكلّ هذه الشجاعة؟
أحمد الصباهي
كان خبراً صادماً أن نستفيق على نبأ استشهاد الشيخ خضر عدنان، وهو مضرب عن الطعام. كنّا بانتظار نصر جديد كما سجلته مسيرته الكفاحية في الأسر مع سجون الاحتلال الإسرائيلي، كما فعل في مرّات عديدة، انقطع فيها عن الطعام لفترات طويلة. إلا أنّ هذه المرّة كانت مختلفة، فقد انتصر الشيخ بروحه، وخلّف جسده أسيراً حتى كتابة هذه السطور.
يبدو، للوهلة الأولى، أنّ عدنان استشهد جرّاء إضرابه عن الطعام، وهو الذي اختار طريق المواجهة ضد اعتقاله الظالم، في ظلّ رفض محاكم الاحتلال المتكرّر لإطلاق سراحه، وهي التي وجهت له لائحة اتهام، بانتمائه إلى حركة الجهاد الإسلامي، لكن مصلحة الاحتلال واضحة في التخلّص منه عبر قتله بأيّ وسيلة، وسيبقى سبب استشهاده لغزاً، على الرغم من وضوحه.
لم يكن الشيخ خضر عدنان شخصية قيادية، كأيّ قيادي من أبناء الشعب الفلسطيني، وإن كانت توجهاته السياسية والفكرية مقاومة للاحتلال وضد اتفاقية أوسلو، إلا أنّ حراكه في المجتمع الفلسطيني، في بلدته عرابة، وفي جنين، وفي عموم الضفة الغربية، وزيارته لبيوت الأسرى والمعتقلين وعائلات الشهداء من مختلف التوجهات السياسية، جعلت منه بحق شخصية وحدوية، وإن كان الشيخ خضر محسوباً على جهة سياسية، إلا أنّ بيوت الضفة الغربية كانت مفتوحة للشيخ خضر، فقد كان يعتبر هذا أقلّ الواجب، مصطحباً معه زوجته في بعض الأحيان، وهو كما عبّر في وصيته "خير بيوتات فلسطين هي بيوتات الشهداء والأسرى والجرحى والصالحين".
كان يحمل صور الشهداء في يده، ويدخل إلى البيوت معزّياً، يلتقي الأهالي ويحدّثهم عن بطولات أبنائهم، ويرفع من معنوياتهم، ويضمّد جراحهم، يحمل أبناءهم بين يديه، ويحنو عليهم في غياب آبائهم. كان حريصاً على المواكبة الإعلامية لهذه التحرّكات، لا لشيء، إلا أن يظهر الوجه الآخر للفلسطيني، الذي اعتاد الوقوف من جديد رغم كلّ الجراح. كان حريصاً على إرسال هذه الرسالة للاحتلال الإسرائيلي ولمن يهمه الأمر أيضاً، وهو القائل في وصيته للشعب الفلسطيني: "يا شعبنا الأبي...لا تيأسوا، فمهما فعل المحتلون، وتطاولوا في احتلالهم وظلمهم وغيهم، فنصر الله قريب".
كان يحمل صور الشهداء في يده، ويدخل إلى البيوت معزّياً، يلتقي مع الأهالي ويحدّثهم عن بطولات أبنائهم، ويرفع من معنوياتهم، ويضمّد جراحهم
أذكر جيداً في ليلة واحدة تنقله في عدّة بيوت للشهداء في جنين، هذا المخيّم الذي أرّق الاحتلال، وما زال يقدّم الشهيد تلو الشهيد، أذكره جيداً، وهو الذي كان ينتصب واقفاً يحمل صور الشهداء، ويتوعّد الاحتلال باستمرار المقاومة، مهما بلغت التضحيات. كنت أقول في نفسي: ما هذه الشجاعة؟ أنت لوحدك من أين أتيت بكلّ هذا؟ الآن عرفت من وصيته لأبنائه وزوجته "أوصيكم بقول الحق في كلّ زمان ومكان".
في تغطيتنا الإعلامية في فضائية فلسطين اليوم، لأيّ اعتصام لعوائل الأسرى المضربين عن الطعام، أو المرضى في الطرقات، أو في الخيم التضامنية في الضفة الغربية، كنّا نلتقي الشيخ خضر عدنان، فحضوره بديهي، وطاغٍ، كان صوته صدّاحاً ومنتقداً بقوة، وحقّ له ذلك، كان يتهم الجميع بالتقصير، الناس، والفصائل، حتى إني أذكر في إحدى التغطيات التي ندر فيها حضور الناس لفاعلية تضامنية مع الأسرى، أنه قال، بصوت عالٍ: "أين الناس؟ لو دعوا إلى صدر كنافة لكانوا أكثر من ذلك".
كم مرّة خرج الشيخ خضر عدنان، مستقبلاً لأسير محرّر، رغم خطورة وضعه، وهو تحت أعين الاحتلال، فقد كان يفرح لفرحهم، كأنه هو الذي أطلق سراحه، بل كأيّ واحد من عائلاتهم، كم بذلت من وقتك، وجهدك وعرقك للحضور في كلّ هذا؟ وهو الذي اعتذر من زوجته وأبنائه في وصيته، قائلاً: "سامحوني على أي تقصير في جنبكم... لكن تأكدوا أنني ما شغلت عنكم بإذن الله إلا للواجب".
حراكه في المجتمع الفلسطيني وزيارته لبيوت الأسرى والمعتقلين وعائلات الشهداء من مختلف التوّجهات السياسية، جعلت منه بحق شخصية وحدوية
أذكر في إحدى المرات أنه خرج مستقبلاً لأسير، فما كان من أجهزة السلطة الفلسطينية إلا أن انهالت على الجميع بالضرب لحملهم أعلام الفصائل، وضُرب الشيخ عدنان، فما خرج من فمه إلا كلّ ما يوحد الفلسطينيين، كان يتحدث إلينا عبر شاشة "فلسطين اليوم"، وهو المتألم جسداً وروحاً، إلا أنه كان وحدوياً، مهما كلّف الثمن.
كذلك فإنّ أزقة مخيم جنين، وحارات الضفة الغربية، تعرف جيداً خطى الشيخ عدنان، فقد كان يتحرّك من تلقاء نفسه، لدى أيّ اعتداء أو اقتحام لقوات الاحتلال، أو عند عزمها على هدم بيت شهيد. لم يكن معه الكثير من الناس في بعض الأحيان، لكن هذا لا يهم، المهم ألّا يمرّ الحدث دون موقف، كان صوته عالياً، حتى الأطفال اشتركوا معه في هذه التحرّكات، وكانوا يردّدون خلفه الهتافات المناهضة للاحتلال.
عند حدوث عملية فدائية في الضفة الغربية، أو عملية اقتحام تقوم بها قوات الاحتلال، أو حملات اعتقال، كان ينجدنا الشيخ خضر فنتصل به، فقد كان هاتفه مفتوحاً لإبداء الموقف، فليس هناك دائماً من هو مثله، مقدام وجاهز ليل نهار، ولم يكن يخشى الموقف، وأعود فأقول: من أين أتيت بهذه الشجاعة، وأنت وحدك؟
رسالة أخرى تركها لنا الشيخ خضر، عبر غيابه... أنّ واجب الأسرى يقتضي الحضور على الدوام
لقد استمعت إلى العديد من المواقف التي صدرت في العزاءات، والتي تحدّثت صراحة عن غياب الناس في الاعتصام الذي دعت له زوجة الشيخ خضر، وهو الذي لبّى الاعتصامات وزار الخيم والبيوت، وكما هي العادة، لا نعرف قيمة الإنسان إلا لدى غيابه، ربما ظنّ الناس أنّ الشيخ خضر سينتصر من جديد، فلذلك تلكأوا، بكلّ الأحوال هذا لن يعيد لنا الشيخ خضر، لكن لعلها رسالة أخرى تركها لنا الشيخ خضر، عبر غيابه، أنّ واجب الأسرى يقتضي الحضور.
كان الشيخ خضر رجلاً بسيطاً في حياته، فقد كان يعيش من كفاف يده، فهو فران، يعجن الطحين، ويصنع الخبز والمناقيش، هو وأبناؤه، لم يكن يتكسّب من نضاله وكفاحه، فقد فضّل العيش بين الناس، على العيش خلف المكاتب، وهو حتى في انتقاله إلى العالم الآخر أوصى بأن يكتب على قبره "واكتبوا على قبري هنا عبد الله الفقير خضر عدنان... واجعلوه قبراً بسيطاً".
ستفتقدك عائلات الأسرى في ساحات نضالهم في الشارع، وعوائل الشهداء في بيوتهم، ستفتقدك عرابة، وجنين، وحارات الضفة الغربية، سنفتقدك جميعاً... أما عائلتك فتلك قصة أخرى.