ذخائر مغربية من قلب المونديال
عزيز أشيبان
من المؤكد أنّ كرة القدم كلعبة جماعية جذابة تستأثر بشغف الملايين من المتابعين عبر أنحاء العالم، وتحفّز الحركية الاقتصادية في بعض الدول من خلال الحشود المستقطبة والاهتمام الذي تنفرد به، إلى درجة إمكانية الخوض في الحديث عن صناعة قائمة بذاتها بمعية أرقام معاملاتها الفلكية.
تقوم كرة القدم بتنشيط مجموعة من القيم، تتباين بين السلبي والإيجابي، وفقاً لرؤية وكيفية توظيفها والترويج لها. من الجميل أن ترتقي تجربة تنظيم كأس العالم 2022 إلى عملية تنشيط حزمة من القيم النبيلة والفعالة، خصوصاً، أنها تقام لأوّل مرة في رحاب المنطقة العربية في دولة قطر، وحظيت حتى الآن بنجاح باهر وبإشادات على مستويات عدّة. نتحدث هنا عن قيم التسامح، والتعايش مع الآخر، والتآزر، والعمل الجاد، والكرم.
مما لا شكّ فيه، يحيل النجاح الباهر لدولة قطر في تنظيم كأس العالم، فنياً ولوجستياً ومعنوياً، وفي خضمه التألق الاستثنائي للكتيبة المغربية على دلالة رمزية عميقة تبطن من العبر والدروس ما يستحق التدبر والاقتداء. تفوّق الواقع على الحلم، وصارت الحقيقة أجمل من الخيال، حيث نجح فريق عربي في كسر سقف الطموحات وأحدث الرجة في مشاعر الناس في بقاع المنطقة العربية. يمكن تصنيف العبر والدروس المرسلة في محاور عديدة، نركز فيها على ما يلي:
نفسياً وذهنياً، ثمّة ميل قوي نحو تحدّي عُقد النقص المتوارثة والإحساس الدائم بالهوان والضعف والانهزامية والدونية أمام الآخر المتقدّم. حقيقة، تئن دول المنطقة العربية تحت وطأة تعطّش رهيب للنجاح بعد تسيّد قيم الهدم واليأس والتبخيس. ومع ذلك، يمكن استثمار هذا التعطش بطريقة إيجابية، وتحويله إلى طاقة دفع قوية من أجل الانتقام من واقع الارتداد والتخلف وصناعة مستقبل الإقلاع والتقدّم. لا جرم من رفع سقف الأهداف والإجهاز على قداسة الوضع القائم والانفتاح على طموحات الناس والتواصل معهم.
تفوّق الواقع على الحلم وصارت الحقيقة أجمل من الخيال
كما يُستشف من الإنجاز أنّ ثوابت التميّز والنجاح تتحقّق بتوّفر الرؤية المستقبلية، والروح الجماعية، والإرادة السياسية الصادقة، والتكليف حسب الكفاءة والاستحقاق، والإخلاص في العطاء للمجموعة ككل، بالترفع عن نعرات الأنانية والطمع، وصهر الطموحات الفردية في خدمة الطموح الجماعي.
إقليمياً، هناك انتعاشة قوية في حرارة الحس القومي العربي؛ إذ إنّ لسان الحال يقول إنّ فخر الانتماء إلى المنطقة العربية بتنوّع أجناسها ومعتقداتها ولهجاتها يعلو ولا يعلى عليه. هناك علاقة وجدانية قوية تعجز الكلمات عن وصفها بين المواطن العربي وجغرافية انتمائه وتاريخه، حيث تذوب الحدود القُطرية والحسابات الضيقة والخلافات السياسية بمجرّد ارتفاع منسوب فعالية الحس القومي، من خلال تفاعل الشارع العربي مع ما يقع في كلّ بقعة من الوطن العربي. قد يخفت الحس القومي في غياب ثقافة الهدم وفظاعة الخيبات وسطوة اليأس والتشاؤم، لكنه لا يفنى.
موازاة لنشاط الحس القومي العربي، هناك يقظة دائمة تستوطن روح الحس الوطني في دواخل الذخائر البشرية. في الواقع، يمثل الحس الوطني النواة الصلبة في الرأسمال المعنوي، ويمثل بطارية شحن وقوة دفع نحو الإنجاز والإسهام والتميّز، إذا جرى استثمار نشاطه بكيفية عقلانية ورشيدة. الوطن لا ينهض إلا بكفاح رجالاته الأقحاح من صلب أمهات عظيمات، حيث منبع الوطنية والقيم وثوابت التوازنات النفسية والذهنية.
على مستوى الرأسمال البشري العربي، يزخر العمق العربي بكنوز من طاقات المواهب التي تحتاج الثقة والاحتضان وحسن التوجيه والتوظيف من أجل تعبئتها في تجربة تنموية حقيقية. فعلى الرغم من تعقد البنيات الفكرية والذهنية المركبة، يظلّ الوطن العربي وعاءً مرحبّاً بالتنوير وتصوّرات حداثية جدية. كما يجب توظيف خبرات الطاقات الوطنية في بلد المهجر واستجداء نبض حسّهم الوطني من أجل الانخراط الفعلي في بناء الوطن وعدم الاقتصار على اختزال كيانها في النظرة البئيسة الضيقة كمورد للعملة الصعبة؛ إذ لا حاجة لنا في التذكير بأنّ نهر العطاء لديهم بلا ضفاف، لا يجف ومنسوب تدفقه لا يفتر أبداً.
علاقة وجدانية قوية تعجز الكلمات عن وصفها بين المواطن العربي وجغرافية انتمائه وتاريخه
تظلّ فلسطين أم القضايا العربية ما دامت مستقرة في أذهان ونفوس العرب، وفي قلب أنساق النضال الإنساني عند كل إنسان حر، بغض النظر عن الدين أو الجنس أو بلد الانتماء. حقا لم يستطع التطبيع السياسي، وبجميع أساليبه دفع الشعوب إلى قبول التطبيع مع الاحتلال، ولم يرفع العزلة النفسية الرهيبة عن المحتل.
ثمّة طاقة إيجابية تغزو كلّ شبر من تراب المنطقة العربية بفعل حدث تنظيم كأس العالم في قطر والتألق الباهر للمنتخب المغربي، وجب توظيفها كقوة دفع نحو السير قدماً في تجربة الإقلاع والتنمية، وتعبئة الشعوب العربية نحو تحقيق طموحاتها وتجاوز كبواتها وخيباتها المتتالية منذ قرون.
ما أجمل الحقيقة عندما تنسج من عطاء قلوب مخلصة صادقة همها الوحيد إسعاد الوطن والأمة بمختلف مكوناتها.