صراع حقوق
تتسع الفجوة بين البشر، اتهامات مباشرة بالهدر والإسراف، في مركز استلام الحوالات تصرخ المرأة في وجه ابنها على الهاتف، لا تقل لهم عيدية، سيتصرفون بها وكأنها هدية. تحلاية فائض معد للتبذير، أرجوك احفظ نقودك لأجلنا.. الحاجات تتسع والفقر بات شريكاً يقيم بيننا، يبدو أن الابن قد أغضبه كلام أمه، تحاول مراضاته، تبكي، هل عجزت عن ذلك؟
أصبح الجلوس في المقهى ولو لشرب الشاي شتيمة، توصيف بالهدر وعدم المسؤولية، لماذا يرسل الأبناء نقودهم إلى أهلهم في البلد؟ تلبية للواجب؟ محاولة لتعويض الواقع المأساوي والمجحف والمخيف؟ أم بناء على طلب العائلة المتكرر تحت ضغط المحبة أو ضغط طلب الرضا تجاه العائلة تحت ما يسمى صلة الرحم.
سؤال يطرح نفسه بشدة، إلى أين يعود الأبناء والبنات بعد ارتياد المقاهي وصرف النقود المرسلة على ما يسمى ترفا غير مقبول وغير مبرر؟ يعودون لبيوت باردة وخالية من الشمس ومن الأمان الغذائي، يعودون لمواجهة حقيقة ثابتة وهي الفقر المدقع والحصار الحقيقي عبر الحرمان من وسائل الحياة الأساسية من كهرباء وماء واتصالات ومواصلات.
تتداخل الصورة العبثية باتهامات غير بريئة تقدم أهل الداخل السوريين وكأنهم منفقون مسرفون دون رادع أو مسؤولية.
للأبناء والبنات والإخوة على المقلب الآخر رأي مختلف، يرونها محاولة للتعويض. واجب يشعرون بثقله لكنهم مجبرون مجبرات على السداد.
هنا دمشق، عبارة باتت بلا جرس موسيقي وخالية من أي ردات فعل عاطفية، وحده الاسم ينطبق على المكان الموصوف بالموحش والمرعب والمفقر جداً والقاسي على أهله ومحبيه.
والعطاء هنا مرتبط بالإنفاق، والإنفاق يحرك الاقتصاد برمته. تعتمد السيولة الاقتصادية على ما يتم إرساله من أوروبا ودول اللجوء ليفتح بيوتا أغلقتها الحرب والتخلي عن الدعم الرسمي والفساد. الجوع قاسم مشترك والمبلغ الذي كان يسد عجزا ويطعم ويكسي بات حصوة صغيرة لا تسند ولا تغني وتجرفها رياح الغلاء المتزايد والإفقار غير المسؤول. ثمة ثنائية جديدة تفرض نفسها اليوم.. ادفعوا أكثر لأن الحاجات باتت أكبر وأكثر كلفة.
هنا دمشق، عبارة باتت بلا جرس موسيقي وخالية من أي ردات فعل عاطفية، وحده الاسم ينطبق على المكان الموصوف بالموحش والمرعب والمفقر جدا والقاسي على أهله ومحبيه.
طلبت رويدة، المقيمة في فرنسا، من خالتها الانتقال إلى بيت والدتها، لم تعد رويدة قادرة على فتح بيتين كما يقولون. خسارات متراكمة وعجز. بكت الخالة لأنها لا ترتاح في غير منزلها. لكنها رضخت للأمر الواقع. وحين أغلقت باب منزلها داهمتها دموع العجز. حل آخر تراءى لها. ستؤجر المنزل. خافت أن يأكله الغياب والعتمة وأن تنهشه الوحدة..
تراجعت والدة رويدة عن قواعد عدة صارمة كانت تفرضها على الضيوف. شعرت بأن عليها دعم شقيقتها عاطفيا بعدما أجبرت على ترك منزلها والعيش في فضاء ومناخ وشروط غريبة عنها: أصعب شيء على كبيرات السن هو تغيير البيت. إذ تتغير البنية العاطفية لهن وتغمرهن لوعة المنفى القسري الجديد.
للعطاء الملتزم وجه قاس. طالب سامر والدته بتقديم فواتير أو تسجيل يومي لكل نفقات العائلة على ورقة خاصة، تقدمها له أسبوعيا. فتح طلبه سجالاً حاداً بينهما بات يسبب حزناً وغضباً مكتوماً عند الأم، لأن الالتزام المطلوب عبر إرسال المنحة الشهرية تحول لتدخل لسامر بيوميات العائلة، مثل كمية المواد المشتراة، ومدى الحاجة إليها.. حتى انفجر غضب الأم ذات صباح.. قالت لسامر بسخط وقهر بأنها باعت كل مصاغها لأجل سفره.. صمت لثوان قصيرة وانفجر هو أيضاً. تغيرت السردية التي كان يقدمها لها عن عمله. فجأة تدفق تعب غير محدود من كلماته. قال لها: "أنا تعبت. أنا أحرم نفسي لأجلكم. وبيعك لمصاغك كان واجبك كأم لحمايتي أولاً، ولتأمين دخل كريم للعائلة".
تبدو السمة الحقيقية للواقع الحالي وكأنه صراع حقوق بات يحكم العلاقة ضمن العائلة الواحدة. الجميع محق والجميع عليه تجاوز حقوقه من أجل تأمين حقوق الآخرين. لا فائز هنا ولا مكسب لأي أحد. حالة تنافر مؤلمة والغضب مؤجل لكنه مخزّن لساعة يخشاها الجميع ويحاول تأجيلها.