فضيلة الاعتذار بين رذيلتي الإفراط والتفريط
في الضعف المظنون ﻟ"ثقافة الاعتذار" في العالم العربي
هناك حديثٌ عن ضعفِ ثقافةِ الاعتذار في العالم العربي، وعن أنّ هذا الضعف لا يقتصر على الجانب السياسي، حيث يندر أو يستحيل أن يخطئَ الحاكم أو المسؤول، أو بالأحرى أن يتم الاعتراف بأنّه أخطأ، بل يمتدّ، أيضًا، إلى الجانبِ الثقافي والاجتماعي عمومًا. ومن العوامل التي تسهم في إضعافِ الحضور الإيجابي ﻟ "ثقافة الاعتذار" التفاعل السلبي مع الأخطاء ومع الاعتذار عنها. فهناك من يضخِّم أخطاءَ الآخرين، ويُبالغُ في ردِّة فعله العنيفة عليها، ويحرق كلّ الجسور المستقبلية المُمكنة للتواصل بينه وبينهم، ويقضي على أيّ معنى أو جدوى لأيِّ اعتذارٍ يمكن لهم القيام به. في المقابل، يسارعُ بعض الأشخاص إلى تقديم اعتذاراتهم عند حدوث أيّ سوء فهمٍ بينهم وبين أشخاصٍ آخرين. ويحدوهم الأمل بأن يسهِّل ذلك تجاوز سوء الفهم المذكور وتقديم الأشخاص الآخرين لاعتذاراتهم أيضًا. لكن، ليس نادرًا أن ينتهزَ الأشخاص الآخرون فرصة اعتذار شخصٍ ما، وما يتضمّنه ذلك من اعترافٍ بالخطأ، ليستمروا أو يصعِّدوا في عملياتِ لومه وانتقاده والحديث عن سوءِ فعله أو فعلته، بدلًا من أن يقوموا، هم أيضًا، بالاعتذار عن أفعالهم التي (قد) لا تقلّ سوءًا أو خطأً عن سوءِ أو خطأ فعل الشخص المذكور، بل (قد) تُضاهيها وتزيدها أيضًا.
ومن عواملِ الضعف المظنون ﻟ "ثقافة الاعتذار" أنّ الرغبة في الانتقام والتشفّي من المخطئين لا حدود لها في كثير من الأحيان، من ناحيةٍ، وأنّه من النادر أن يعترفَ الشخص بخطئه، فعلًا وبوضوحٍ وعلانيةٍ، دون "لكننة" و"تبريرٍ لخطئه" وتهرّبٍ من المسؤولية ... إلخ. وكلُّ طرفٍ من هذه الثنائية يعزّز وجود الطرف الآخر، فعدم وجود اعتذاراتٍ حقيقيةٍ يضعف فرص تقبلها أو حتى قبولها، وعدم وجود استعدادٍ كبيرٍ لتقبّل الاعتذارات أو قبولها والتفاعل الإيجابي معها، يضعف إمكانية أو احتمال وجود مثل هذه الاعتذارات.
أن تعتذر متأخرًا خيرٌ من ألّا تعتذر أبدًا
دُعيت منذ مدّةٍ إلى ندوةٍ، وقد وافقتُ على الدعوة، لأنّ موضوعَ الندوة مناسب لاهتماماتي (البحثية)، ولأنّ من دعاني شخصٌ أثق به وبخبرته في تنظيمِ الندوات، وأكن له الودّ والاحترام والتقدير. وقد علمت، لاحقًا، أنّ الندوة ستكون جلسةً مغلقةً، فوافقت ممتعضًا، لأنّني لا أرى ضرورةً أو فائدةً من تحويل المجال العام المفتوح إلى مجالٍ خاصٍّ مغلقٍ. وأنا حريصٌ على نشرِ مثل هذه الجلسات لكلِّ المهتمات والمهتمين. كنت أنتظر أن يكون هناك، لاحقًا، مزيد من التحضيرات والمعلومات والتوضيحات عن الندوة، لكن ذلك لم يحصل، ولم يكن لديّ سوى عنوان غير واضح المعالم. فاستفسرتُ من المسؤولين عن الندوة، فقيل لي، قبل يومٍ من موعدها، إنّها (أصبحت) محاضرة، وإنّني سأقوم بالتعقيب على المحاضرة. ونظرًا إلى غيابِ أيّة ورقةٍ خلفيةٍ أو ملخصٍ أو تصوّرٍ واضحٍ عن مضمون المحاضرة/ الندوة، والارتجال والاستسهال وعدم الوضوح في هذا الخصوص، ونظرًا إلى أنّ الغاية المُعلنة من الندوة تعميق التفكير في موضوعها، فقد أبلغتُ القائمين على الندوةِ باعتذاري عن عدم مشاركتي في مثل هذه الندوة، لأنّ انعدام التحضيرات لها يجعل الندوة عاجزةً عن تحقيق الغاية المرجوة والفائدة المفترضة. وبعد أن عُوتبت، صراحةً، على اعتذاري المتأخر، عاتبت القائمين على الندوة، صراحةً أيضًا، على هذا الاستسهال في عقدِ ندوةٍ بهذه الطريقة (خذ هذا العنوان وتحدث عنه!)، ورأيت أنّ عدم انعقاد مثل هذه الندوة قد يكون أفضل أو أقلّ سوءًا من انعقادها بهذه الطريقة؛ وأنّه ينبغي لمنظّمي الندوات أن يشعروا بمسؤولية أكبر، وأن يبذلوا جهودًا أكبر، وأن يقوموا بالتحضيرات الفكريّة والإداريّة المطلوبة لإنجاحِ مثل هذه الندوات. وللأسف لا أجد أن ذلك قد حصل في خصوصِ تلك الندوة، ولا أرى أنّه يحصل في خصوص ندواتٍ كثيرةٍ أخرى.
الاعتذار الألماني بخصوص الهولوكوست تجاوز كلّ الحدود المعقولة إلى درجةٍ جعلته يتحول إلى رذيلةٍ، بل رذيلة الرذائل
لا تقع المسؤولية على عاتق منظّمي الندوات فقط، بل على المشاركين فيها أيضًا. وأذكر أنّني انتقدتُ شخصين (أحدهما رحل منذ فترة قصيرة، والآخر ما زال على قيد الحياة)، لقبولهما المشاركة في ندوةٍ تتعاملُ مع المشاركين على أساسِ نسبهم الديني أو الإثني أو الطائفي ... إلخ (ماذا يريد المسيحي/ السني/ العلوي من الدستور؟)، لكن تبيّن لي أنّهما لم يقرآ الملخص المنشور للندوة أصلًا. لكنهما لم يفكرا بالانسحاب من المشاركة وتقديم الاعتذار عن عدم المشاركة، حتى بعد أن عبّر كلاهما عن الدهشةِ والصدمة والنفورِ من مضمون (الإعلان عن) تلك الندوة. واستغربتُ، علنًا، موقفيهما، واستهجنته، في سرّي، متسائلًا: أليس الاعتذار متأخرًا، في مثل هذه الحالة، خيرٌ من الاعتذار بعد فواتِ الأوان أو من عدم الاعتذار مطلقًا؟
في الثقافة الاعتذارية "الألمانية"
إذا كان الاعتذار فضيلةً. والفضيلة وفقًا للتعريف الأرسطي لها، وسطٌ (ذهبيٌّ) بين طرفين متطرفين، أحدهما إفراطٌ والآخر تفريطٌ، من حيث إنّ الإفراط يستعمل في تجاوز الحدِّ من جانب الزيادة والكمال، والتفريط يستعمل في تجاوز الحدِّ من جانب النقصان والتقصير، كما يشرح الشريف الجرجاني. وإذا كانت الثقافة العربية متهمةٌ بالتفريط في الاعتذار، فإنّ الثقافة الألمانية المعاصرة، بعد الحرب العالمية الثانية، متهمةٌ بالإفراط في (التعبير عن) الاعتذار. فمهما كان التعبير عن الاعتذار جميلًا (كما هو الحال في الاعتذاريات الأجمل، اعتذاريات النابغة الذبياني، على سبيل المثال) فإنّ له، مثل صبر أم كلثوم، حدودًا ينبغي مراعاتها وتجنّب الإفراط والتفريط في خصوصها. ويمكن المحاجة بأنّ الاعتذار الألماني في خصوصِ الهولوكوست تجاوز كلّ الحدود المعقولة إلى درجةٍ جعلته يتحوّل إلى رذيلةٍ، بل رذيلة الرذائل، مع أنّ المفترض منه والمقصود، علنًا، به، هو أن يكون فضيلةً، بل فضيلة الفضائل. وما كان لفضيلة الاعتذار أن تتحوّل إلى مثل تلك الرذيلة لو أنّ الأمر تعلّق بالألمان واليهود فحسب، لكن ذلك التوجّه الاعتذاري تحوّل إلى مطيةٍ لأخطاء وخطايا وجرائم تُمارس بحقِّ آخرين، وتمنع الجانب الألماني ليس من الاعتراف بها والاعتذار والتراجع عنها فحسب، بل تمنعه، أيضًا، حتى من رؤيتها، فضلًا عن التعامل العقلاني المعقول والمُنصف معها. وعلى هذا الأساس، يجري الحديث عن مَرَضية تحوّل الشعور بالذنب إلى عقدةٍ نفسيةٍ، وعن ضرورةِ الانتباه إلى عدم الانجرار إلى جلدِ الذات و/ أو جلد الآخرين، انطلاقًا من الشعور المذكور أو العقدة المذكورة.